Índice

Presentación

Introducción al sufismo

La vida de Šayj Aḥmad al-Tiŷānī

Las condiciones de la Vía Tiŷāniyya

El método de la Vía Tiŷāniyya

Los favores de la Vía Tiŷāniyya

La Fayḍa Tiŷāniyya

Šayj Ibrāhīm Nyasse

Šayj cAbda-l·lāh Djā

Enseñanzas de la Vía Tiŷāniyya

Súplicas de la Vía Tiŷāniyya

Lengua árabe

Fiqh Mālikī

Noticias

Multimedia

Enlaces

Sobre nosotros

Contactar

بغية المستفيد

لشرح منية المريد

 

تأليف

سيدي العربي بن السائح الشرقي العمري التجاني


مقدمة

تشتمل على سبعة مطالب مهمة


المطلب الأول

فِي بَيَانِ مَنْشَا عُلُومِ الطَّرِيقِ وَبَعْضِ مَا ٱخْتَصَّ بِهِ اهْلُهَا مِنْ اسْرَارِ الاذْوَاقِ وَالتَّحْقِيقِ


لا يخفى ان هذا المطلب مما يُهِمُّ في هذا المقام تقديمه، ويتاكد في حق اهل الطريق تعلمه وتعليمه، اذ بالنظر فيه يرتقى المريد الموفق –ان شاء الله تعالى– عن حضيض الجمود على ظواهر الانقال، الى اوج النظر في ارواح المعاني ولباب علوم اهل الكمال.

ومن ادنى ما اشتمل عليه من الفوائد الجليلة، والعوائد الجميلة، ان يسلم الناظر فيه –بتوفيق الله تعالى– من ان ينكر من كلام اهل الله تعالى ما لم يبلغه علمه، او يرد من اشارتهم ما لم يصل اليه فهمه. وناهيك بها من فائدة عظيمة، تضرب اليها اكباد الابل وتتفانى في تحصيلها النفوس الزكية الكريمة.

وقد قال الشيخ ابو يزيد البِسْطامي رضي الله عنه: "اذا رايتم من يؤمن بكلام اهل الطريقة فاسالوه يَدْعُ لكم فانه مجاب الدعوة". ه

وقال الشيخ محيي الدين رضي الله عنه: "اقل درجات اهل الطريق التسليم فيما لا تعلمه انت، واعلاها القطع بصدقه، وما عدا هذين المقامين فحرمان". ه

فلمثل هذه الفائدة المهمة، اثارنا ان يكون هذا المطلب امام مطالب هذه المقدمة. فنقول والله المستعان، وعليه الاعتماد والتكلان.

اعلم ارشدني الله واياك الى مناهج التسليم والتصديق، واذاقنا جميعا حلاوة الايمان والتحقيق، ان العلم ينقسم بحسب ما يجب اعتباره هنا الى قسمين: علم الظاهر، وعلم الباطن.

اما علم الظاهر: فالمراد به العلم الشرعي المفيد لما يلزم المكلف في امر دينه عبادة ومعاملة. وهو يدور على التفسير والحديث. وعُدَّ منه النحو واللغة واصول الفقه ونحوها على ما هو مبين في كتب اهل العلم.

واما علم الباطن: فهو نوعان:

الاول : علم المعاملة وحقيقته: النظر في تصفية القلب وتهذيب النفس، باتقان الاخلاق الذميمة التي ذمها الشرع كالرياء والعجب وحب العلو والثناء والفخر، ليتصف بالاخلاق الحميدة كالاخلاص والشكر والصبر والزهد والتقوى والقناعة، ليصلح عند احكامه لذلك لعمله بعلمه ليرث ما لم يعلم. فعلمه بلا عمل وسيلة بلا غاية، وعكسه جناية، واتفاقهما بالا ورع كلفة بلا اجرة. فاهم الامور: زهد واستقامة لينتفع بعلمه وعمله.

وهذا النوع فرض عين في فتوى علماء الاخرة. فالمعرض عنه هالك بسطوة ملك الملوك في الاخرة، كما ان المعرض عن الاعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين الدنيا بحكم فتوى فقهاء الدنيا.

واما النوع الثاني فهو: علم المكاشفة: وهو نور يظهر في القلب عند تزكية النفس، فتظهر به المعاني المجملة، فتحصل لصاحبه المعرفة بالله تعالى وباسمائه وصفاته وكتبه ورسله، وتنكشف له الاستار، عن مخبات الاسرار. فافهم، وسلّم تسلم، ولا تكن من المنكرين، فتهلك مع الهالكين.

وهذا النوع هو الذي قال فيه بعض العارفين: "من لم يكن له نصيب من هذا العلم اخشى عليه سوء الخاتمة وادنى النصيب منه التصديق به، وتسليمه لاهله. والله تعالى اعلم" ه، وانظر [ارشاد الساري].

ثم ان علم الباطن بنوعيه هو غاية العمل بعلم الظاهر وزبدته ونتيجته المقصودة منه وثمرته. وذلك ان العبد اذا عمل بالشريعة، ووقف عند حدودها المرسومة، بالمحافظة على شروطها المشروطة وادابها المعلومة، يستضيء قلبه لا محالة من فضل الله تعالى بانوار الايمان، فينقدح له في الباطن مالا يكيف من غرائب العلوم والاداب وعجائب اسرار الحقائق والعرفان، فيطلع من علوم الشريعة وادابها على مالا تحيط به الافكار، ويتحقق من المعارف الالهية والاسرار الربانية بما يحير اذهان النظار.

فحقيقة العالم بعلم الباطن ما اشار اليه الشيخ العارف بالله تعالى سيدي عبد الوهاب الشعراني رضي الله تعالى عنه في كتابه [اليواقيت والجواهر، في بيان عقائد الاكابر] ونصه في المبحث الثامن والاربعين منه: "اعلم ان حقيقة الصوفي: فقيه عمل بعلمه لا غير، فاورثه الله الاطلاع على دقائق الشريعة واسرارها حتى صار مجتهدا في الطريق والاسرار كما هو شان الائمة المجتهدين في الفروع الشرعية. ولذلك شرَّعوا في الطريق واجبات ومحرمات، ومندوبات ومكروهات، وخلاف الاوْلى، كما استنبط المجتهدون نظير ذلك. وابطلوا – اي مجتهدوا القوم – العبادات والعقود بالاخلال بما اوجبوه وشرطوه، او بارتكاب ما حرموه. هذا شانهم رضي الله تعالى عنهم. فما من احد منهم حق له قدم الولاية الا وهو مجتهد في الطريق ليس عنده تقليد الا لما صرحت به الشريعة او اجمع عليه الامة. فمن ادعى مقام الكمال وهو مقلد لغيره فهو غير صادق". قال: "وقد سمعت سيدي عليا الخَوَّاص رحمه الله تعالى مرارا يقول: لا يكمل الرجل عندنا حتى ياخذ العلم من حيث اخذه المجتهدون" اه. وذكر نحوه في مقدمة [طبقاته].

ثم قال بعده: "لكن لا يُشْرِفُ على ذوق ان علم التصوف تفرع من عين الشريعة الا من تبحر في علم الشريعة حتى بلغ الغاية".

وقال في المقدمة ايضا، بعد ان حكى فيها نحو ما تقدم من ان علماء الطريق شرعوا في الطريق واجبات ومحرمات ومكروهات الخ ما نصه: "وليس ايجاب مجتهد باجتهاده شيئا لم تصرح الشريعة بوجوبه باولى من ايجاب الولي حكما لم تصرح الشريعة بوجوبه، كما صرح بذلك اليافعي وغيره" اه.

"وذلك لان الكل مستنبط من نصوص الشريعة الطاهرة، ومقتبس من انوار علومها الفاخرة. فكما ان الائمة المجتهدين رضي الله تعالى عنهم استنبطوا من نصوص الشريعة مالا يحصى من الاحكام والوقائع، فكذلك هؤلاء علماء الباطن وائمة الطريق استنبطوا ايضا من نصوص الشريعة احكاما ووقائع في الباطن لا تحصى. والكل من طريق الاجتهاد الصحيح. فالاجتهاد واقع في دولة الباطن كما هو واقع في دولة الظاهر، ولا غنى باحدى الدولتين عن الاخرى. فحقيقة بلا شريعة باطلة، وشريعة بالا حقيقة عاطلة اي ناقصة" اه. وانظر [اليواقيت]

فالفريقان لا محالة يغترفان من عين واحدة.

وكما انه لا يخرج شيء من علوم علماء الظاهر عن الشريعة فكذلك لا يخرج شئ من علوم علماء الباطن عنها. قال في مقدمة [الطبقات]: "وكيف تخرج علومهم – اي اهل الباطن – عن الشريعة، والشريعة هي وُصْلَتهم الى الله تعالى في كل لحظة" اه.

فقد بان لك ان علم الباطن زبدة علم الظاهر ونتيجة العمل به على الوجه الاكمل، من ايقاعه غير مشوب بالحظوظ والعلل.

ولهذا قال امام الطائفة الجُنيد رضي الله تعالى عنه: "علمنا هذا مشيد على الكتاب والسنة" اه. ردا على من توهم خروجه عنهما. ومعنى كونه مشيدا على الكتاب والسنة "انه نتيجة عن العمل بهما" قاله الشيخ محي الدين رضي الله تعالى عنه. ثم قال: "وبذلك يفرق بينه وبين ما يظهر لارباب النواميس الحِكَمِية": قال: "وهذا لا يعرفه الا اصحاب الذوق". انتهى

قلت: وفي تعبير امام الطائفة رضي الله عنه بمُشيَّد اشارة الى انافة قدر علم الباطن وشفوف درجته من حيث انه لُبُّ الشريعة وزبدتها. وقد ذكر في [اليواقيت] ما يشهد له ونصه: "وقد رايت في كتاب الرعاية للشيخ عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء بمصر في عصره ما نصه: كل الناس قعدوا على رسوم الشريعة وقعد الصوفية على قواعدها التي لا تزلزل" اه.

ثم قال في [اليواقيت] بعده: "وقد بلغنا انه – اي الشيخ عز الدين – كان يقول قبل ذلك: وهل ثَمَّ طريق للشريعة غيرُ ما بايدينا من النقول، ثم يقول: من زعم ان ثَمَّ علما باطنا للشريعة غير ما بايدينا من النقول فهو باطني يقارب الزنديق. فلما اجتمع بالشيخ ابي الحسن الشاذلي بمصر، واخذ عنه صار يمدح طريق القوم كل المدح ويقول: "انها طريق جمعت اخلاق المرسلين".

قال: "وكان حجة الاسلام الغزالي يقول مثل ما كان يقوله ابن عبد السلام. فلما اجتمع بالصوفية وذاق طريقهم صار يقول: ضيعنا عمرنا في البطالة اي لما في العلم على طريق اهل الجدل، من غلبة القول على العمل"،

ثم قال - اعني صاحب [اليواقيت] رضي الله عنه-: "والحق ان الاشتغال ليس ببطالة وانما هو اساس الطريق. فان من شان اهل الطريق ان تكون جميع حركاتهم وسكناتهم محررة على الكتاب والسنة، ولا يعرف ذلك الا بالتبحر في علم الحديث والتفسير. فقول الغزالي هذا انما هو قول صدر منه حال عشقه في طريق القوم، والعاشق حكمه حكم السكران. ولو انه تامل في حاله لعرف ما قلناه من ان الفقه اساس الطريق، وان غاية الصوفي انه عالم عمل بعلمه لا غير" اه.

ونصوص الكمل من مشايخ الطريق في هذا الباب واضحة، وتصانيفهم بما لهم فيه من جلي العبارات وسنى الاشارات طافحة. واقتصرنا منه على هذا القدر اليسير مما يفيد مطلب التبصير، في التعريف بمنشا علوم الرجال، والاشارة الى بعض ما امتازوا به في هذا المجال.

وقد اتضح بحمد الله تعالى ان منشا علومهم انما هو العمل بالكتاب والسنة، باحكام الشروط الاسلامية، والوفاء بالربوط الايمانية، حتى ينقدح لهم في بواطنهم من سواطع الانوار الربانية، ما يكشف لهم باذن الله عن مخبات اسرار الشريعة المطهرة وخفيات انوار الحقائق العرفانية.

فالعالم بعلم الباطن هو من اخذ حظا من علوم الدراسة، فافاده علم الدراسة العلم بالعلم، وافاده العمل علم الباطن، فصار مشاركا للعلماء في علومهم، وتميز عنهم بعلوم زائدة هي علوم الباطن، وتسمى ايضا علوم الوراثة اخذا من لفظ الخبر: (مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).

وانما افادهم العمل بما علموا علم ما لم يعلموا لاحكامهم اساس التقوى دون غيرهم. وقد قال الله تعالى: ﴿وَﭐتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾. قال الشيخ محي الدين: "اي ما لم تكونوا تعلمون بالوسائط من العلوم الالهية، ولذلك اضاف سبحانه التعليم الى الاسم (الله) الذي هو دال على الذات، وجامع للافعال والاسماء والصفات" اه. فاحكام اساس التقوى هو السلم الذي يُرتقَى به الى ادراك العلوم الكبار، ويشرف منه على فهم دقائق الاسرار. قال في [الحكم العطائية]: "كيف يُشْرِقُ قلبٌ صُوَرُ الاكوان منطبعة في مراته؟ ام كيف يرحل الى الله وهو مكبل بشهواته، ام كيف يطمع ان يدخل حضرة الله تعالى وهو لم يتطهر من جنابات غفلاته، ام كيف يرجو ان يفهم دقائق الاسرار وهو لم يتب من هفواته" اه. يريد ان فهم دقائق الاسرار لا يكون الا بتحقيق مقام التوبة، ولا يتحقق مقام التوبة الا باحكام اساس التقوى، في الظاهر والباطن والسر والنجوى.

فاهل الطريق رضي الله عنهم احكموا اساس التقوى، فتعلموا العلم لله، وعملوا بما علموا لموضع تقواهم، فورثهم الله علم ما لم يعلموا من غرائب العلوم، ودقائق الاشارات و رقائق الفهوم. فاستنبطوا من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم غرائب الامور وعجائب الاسرار. فرسخت اقدامهم في العلم. فهم العلماء الراسخون، رضي الله عنهم وارضاهم، وانَالَنَا بمحض فضله وكرمه مما خصهم به واولاهم امين.

قال الشيخ ابو بكر الواسطي رحمه الله تعالى: "الراسخون في العلم هم الذين رسخوا بارواحهم في غيب الغيب وفي سر السر، فعرّفهم الحق سبحانه وتعالى ما عرَّفهم، واراد منهم من مقتضى الايات ما لم يرده من غيرهم. فخاضوا بحر العلم بالفهم لطلب الزيادات، فانكشف لهم من مدائن الخزائن والمخزون ما تحت كل حرف واية، فاستخرجوا الدرر والجواهر، ونطقوا بالحكمة" اه.

وقال يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: "التقى احمد بن حنبل واحمد بن ابي الحُوَّارِي، فقال ابن حنبل لابن ابي الحُوَّارِي: يا احمد، حدثنا بحكاية سمعتها من استاذك ابي سليمان. فقال ابن ابي الحُوَّارِي لابن حنبل: يا احمد قل سبحان الله بلا عَجَب. فقال ابن حنبل: سبحان الله، وطولها، فقال ابن ابي الحُوَّارِي: سمعت ابا سليمان يقول: اذا اعتَقِدت النفوسُ على ترك الاثام، جالت في الملكوت. وعادت الى ذلك العبد بطرائف الحكمة من غير ان يؤدِّيَ اليها عالم علما. فقام ابن حنبل ثلاثا وجلس ثلاثا، وقال: ما سمعت في الاسلام بحكاية اعجب اليَّ من هذه. ثم ذكر الحديث (مَنْ عَمِلَ بما عَلِم ورَّثه اللهُ علمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ). ثم قال لابن ابي الحُوَّارِي: صدقت يا احمد وصدق شيخك. اه.

فعلم ان العلوم التي امتاز بها اهل الله تعالى عمن عداهم انما هي كما قاله الشيخ ابو عبد الله القرشي: "اسرار يبديها الحق تبارك وتعالى الى امناء الاولياء، وسادات النبلاء، من غير سماع ولا دراسة، ولم يُطْلِع عليها الا الخواص" اه.

وقال ابو سعيد الخراز رحمه الله تعالى: "للعارفين خزائن اودعوها علوما غريبة، وانباء عجيبة، يتكلمون فيها بلسان الابدية، ويخبرون عنها بعبارة ازلية، وهي من العلم المجهول" اه. قال في [العوارف]: "وقوله: بلسان الابدية وعبارة ازلية، اشارة الى انهم ينطقون بالله" اه. وقوله: وهي من العلم المجهول، اراد به العلم الذي لا يهتدي الى فهمه والاطلاع عليه الا العلماء بالله تعالى، وهو المشار اليه في الحديث الذي رواه ابن عُيينة عن ابن جُرَيح عن عطاء عن ابي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: (انَّ مِنَ العِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ لا يَعْلَمُهُ الا العُلَمَاءُ بِاللهِ ، فَاذَا نَطَقُوا بِهِ لا يُنْكِرُهُ عَلَيْهِمْ الا اهْلُ الغِرَّةِ بِاللهِ). اه.

وممن صرح بان علم العارفين بالله هو المشار اليه في هذا الحديث العارفُ ابن عبّاد الرَّندي رضي الله عنه.

فلا شك ان العارفين بالله تعالى هم المكاشفون بصريح العلم، وان علمهم هو العلم اللدني الذي لا بقاء للجهل معه، كما ان طلوع الشمس لا بقاء للظلام معه. فهو العلم الصحيح الذي لا يتطرق اليه الفساد بحال، لانه ليس من طريق الفكر. قال الشيخ محي الدين رضي الله عنه: "علومنا وعلوم اصحابنا ليست من طريق الفكر، وانما هي من الفيض الالهي. وذلك لان علوم الفكر يتطرق اليها الفساد والصحة فهي مظنونة فلا يوثق بما تعطيه". قال: "واعني باصحابنا اصحاب القلوب والمشاهدة لا العُبَّاد ولا الزهاد ولا مطلق الصوفية الا المحققين منهم. ولهذا يقال في علوم النبوة والولاية انها وراء طور العقل ليس للعقل فيها دخول، ولكن له القبول اذا كان سليما لم تغلب عليه شُبْهَة خيالية فكرية يكون من ذلك فساد نظر" اه.

"فاذن اسم الفقيه اولى بهذه الطائفة من غيرهم، فانهم هم الذين يدعون الى الله على بصيرة". قاله الشيخ محي الدين عقب كلام له في هذا المعنى.

وقال في [العوارف]، عقب كلام في المعنى ايضا: "وهذا العلم – يعني علم العارفين بالله تعالى – هو الفقه في الدين، وقد قال الله تعالى ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ اذَا رَجَعُوا الَيْهِمْ﴾ فصار الانذار مستفادا من الفقه في الدين، والانذار هو احياء المنذَر بماءِ العلم. فالاحياء بالعلم رتبة الفقيه في الدين. فصار الفقه في الدين من اكمل المراتب واعلاها. ه. ومن هنا اختص علماء الباطن بالدلالة على الله والهداية الى الطريق الموصلة اليه سبحانه دون غيرهم" ه.

وذكر في [اليواقيت والجواهر]: ان مما اختص به علماء الباطن عن غيرهم علمَهم بالطريق الموصلة الى العمل بالكتاب والسنة، قال: "فاذا قلت لهم: مقصودي ان ازهد في الدنيا بحيث لا يبقى عندي ميل عادي اليها مثلا، يقولون لك: اكثر من ذكر الله تعالى ليلا ونهارا حتى يرق حجابك فتدرك الاخرة بعين بصيرتك، وتنظر ما لمن يزهد في الدنيا من الدرجات والنعيم. فاذا رايت ذلك زهدت لا محالة في الدنيا. ولو قال لك جمهور الناس ارغبْ في الدنيا لا تصغي اليهم". قال: "ولو انك قلت ذلك لعالم اي يعلم الظاهر فقط لقال لك: ان الله امرك ان تزهد فازهد. ولا يهتدي الى الطريق الموصلة الى ذلك فحكمه حكم طبيب يحفظ كتابا في الطب ولا يعرف كيفية علاج المرض" اه.

ومما اختص به علماء الباطن ايضا عمن عداهم معرفتهم بامراض القلوب على كثرتها واختلاف انواعها باختلاف مراتب النفس، ومعرفتهم بادويتها جملة وتفصيلا.

ومن ذلك ايضا معرفتهم باداب حضرات الحق جل وعلا في بساط التكاليف الشرعية في جميع مقامات الدين. فان لكل مقام منها ادابا تخصه، لا يعرف الطريق الموصلة الى العمل بتلك الاداب الا علماء الباطن.

قال الشيخ العارف بالله تعالى سيدي عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه في [طبقاته]: "وكان سيدي علي بن سيدي محمد وفا يقول: من المتفقهين تستفيد دعوى العلم باحكام الدين، ومن العلماء العاملين تستفيد العمل باحكام الدين. فانظر اي الفائدتين اقرب قربى عند رب العالمين فاستمسك بها. واذا قال لك المتفقهون: ماذا استفدت من الصوفية الصادقين: فقل لهم: استفدت منهم حسن العمل بما استفدته منكم من اقوال احكام الدين" اه، منها في ترجمة الشيخ سيدي علي المذكور رضي الله عنه.

وكما اختص علماء الباطن بمعرفة الطريق الموصلة الى الاعمال الشرعية الظاهرة والباطنة في بساط المعاملات، فكذلك اختصوا ايضا بما لم يشاركهم فيه غيرهم من علوم المعارف الالهية، والحقائق الفردانية، في بساط المكاشفات وحضرات المشاهدات، لانهم حصلوا على علم التوحيد الخاص، بالكمل من الخواص، من طريق الكشف الحقاني، والشهود العياني. وهذا العلم هو الذي تقدم لنا انه يسمى علم المكاشفة، لان صاحبه يكاشف من المعرفة بالله تعالى وباسمائه الحسنى، وصفاته العليا، بما لا تدركه العقول، ولا ياتي عليه المقول. وهو اعلى الدرجات في التوحيد. لانه: اما تقليدي: وهو توحيد العوام، واما نظري: وهو توحيد اهل النظر من علماء الظاهر القاصرين عن مرتبة اهل الاذواق العرفانية، واما كشفيٌّ شُهودي: وهو توحيد العارفين بالله تعالى.

وهذا العلم حسبما تقدم النوع الثاني من نوعي علم الباطن، وهو نتيجة العمل بالنوع الاول الذي هو علم المعاملات في الظاهر والباطن، كما ان علم المعاملات نتيجة علم الظاهر.

فقد اتضح لك – بحمد الله تعالى – منشا علوم اهل الكمال، وعثرت على بعض ما يشير الى ما امتازوا به من اسرار الاذواق على طريق الاجمال.

تنبيه

ما تقدم لنا من ان العالم بعلم الباطن هو العالم العامل بعلمه الخ ربما تبادر منه ان من شرط الاتصاف بعلم الباطم تقدُّمَ التَّغلغلِ في علم الظاهر، والاحاطةَ بعلوم الشريعة، وليس ذلك بمراد. وانما المراد تقدمُ ما تقومُ به فروض الاعيان، اي ما يحتاج اليه من علوم الشريعة من كل ما يتوقف المريد عليه في سلوكه، اذ كثير من العلوم الظاهرة لا مدخل لها في السير والسلوك، والا لزم الحَطُّ من مرتبة كثير من فحول الطريقة. فقد كان كثير منهم غير متضلعين بعلوم الشريعة. والظاهر انه انما تشترط الاحاطة بعلوم الشريعة في الكمل من الاولياء كالاقطاب ونحوهم اه باختصار من [الجيش] ناقلا له عن المسناوي، فراجعه ان شئت.

وقد نقل الشعراني عن سيدي علي الخواص رضي الله عنهم في [الطبقات] وغيرها في هذا الباب ما يشنف الاسماع، ويقع به الامتاع. وملخصه: ان الكامل من الرجال يحيط من طريق كشفه الحقيقي باحكام الشريعة كلها اصولها وفروعها، ومنطوقها ومفهومها، وناسخها ومنسوخها، وسائر احكامها وعللها، ووجوه استنباطاتها، وغير ذلك مما يتعلق بها، حتى لو فرض اندثار دواوينها جملة وتفصيلا لاملاها من صدره بحيث لا يترك مسالة منها اه.

والظاهر ان المراد بهذا الكامل الموصوف بهذه الخصوصية القطبُ الكبير لا غيره لانه هو الذي يفاض عليه سر القران العظيم.

قال سيدنا ابو العباس التجاني رضي الله عنه: "سر القران لا يعلمه الا القطب الكبير وان كان لا يحفظ القران فسره يعلمه يفاض عليه، بخلاف الحفظ فانه لا يفاض عليه، ولا بد ان يقراه كما تقراه العامة" اه الغرض من كلامه هنا رضي الله عنه.

وقد صرح رضي الله عنه في بعض اجوبته – حسبما في [جواهر المعاني] – بانه "لا يحيط بمعرفة احكام الشريعة وجميع العلوم التي يحتاج اليها الناس الا الفرد الجامع لانه هو الحامل للشريعة في كل عصْر ولو كان اميا لم تسبق له قراءة"انتهى.

تذييل

يكون لما اوردناه في هذا المطلب كالتتمة والتحصيل بهذا الذي تقرر في هذا المطلب من بيان منشا علوم اهل الله تعالى رضي الله عنهم وارضاهم يتحقق المنصف المشفق على نفسه من النار، وعلى دينه من اللِّحاق فيه باهل البوار، ان جميعهم على هدى من الله تعالى وعلى بينة منه سبحانه في جميع ما ياتون وما يذرون، لا يخرجون عن الشريعة المطهرة فيما يسرون به ولا فيما يجهرون، وانهم – كما قال في [اليواقيت والجواهر] "كالائمة المجتهدين، لا ينبغي لاحد ان ينكر عليهم كلامهم الا بعد ان يدخل طريقهم، ويعرف مصطلحهم، وان جميع من شطح منهم عن ظاهر الشريعة انما هو دخيل فيهم، او غلب عليه حال، او كان مبتدئا في الطريق. واما الكاملون فطريقهم محررة على الادب، تحرير الذهب، اذ هم حماة الدين وانصاره، رضي الله عنهم" اه الغرض من كلامه هذا في المحل.

وقال في محل اخر من هذا الكتاب ايضا: "سبب انكار بعض الناس على اهل الطريق انما هو دقة مداركهم. ولو ان المنكر لزم الادب لسلَّم للقوم كل ما خالف فهمه مما لم يعارض كتابا ولا سنة ولا اجماعا" اه.

قلت: ولا سبيل له الى معرفة ما لم يعارض الكتاب والسنة والاجماع الا بالاحاطة باقوال جميع المجتهدين، ومعرفة سائر منازعهم وقواعدهم التي اسسوا عليها مذاهبهم، وانَّى لهؤلاء المتهورين عفا الله عنا وعنهم ذلك. وكيف لهم الوصول الى ما هنالك. فحسبهم لو كانوا يفقهون التصديق بما ادركوه، والتسليم لما لا يفهمون. وانظر [الذهب الابريز] فيما يتعلق بهذا الباب، فقد اجاد مؤلفه فيه بما لا يحيد عن قبوله الا حائد عن الصواب، متنكب عن نهج اولي الالباب، وربما الْمَمنَا ببعض ذلك ان شاء الله تعالى اثناء هذا الكتاب.

وقال الشعراني ايضا في الكتاب المذكور بمحل اخر ايضا ناقلا عن الشيخ محيي الدين رضي الله عنه انه قال: "لا يخفى ان اصل الانكار من الاعداء المبطلين، انما ينشا عن الحسد. ولو ان المنكرين تركوا الحسد، وسلكوا طريق اهل الله تعالى لم يظهر منهم انكار وازدادوا علما الى علمهم، ولكن هكذا كان الامر. فلا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم".

قال: ثم قال – يعني الشيخ محي الدين -: واشد الناس عداوة لاصحاب علوم الوهب الالهي في كل زمان اهل الجدال بلا ادب، فهم لهم من اشد المنكرين". قال: "ولما علم العارفون منهم ذلك عدلوا الى الاشارة كما عدلت مريم عليها السلام الى الاشارة. فلكل اية او حديث عندهم وجهان: وجه يرونه في نفوسهم، ووجه يرونه فيما خرج عنهم. قال سبحانه وتعالى ﴿سَنُرِيهُمُ ايَاتِنَا فِي الافَاقِ وَفِي انْفُسِهِمْ﴾، فيسمون ما يرونه في انفسهم اشارة ليانس المنكرون عليهم، ولا يقولوا ان ذلك تفسير لتلك الاية او الحديث وقاية لشرهم ورميهم لهم بالكفر جهلا من الرامين بمواقع خطاب الحق سبحانه وتعالى، واقتدوا في ذلك بسَنَن من قبلهم. والحق سبحانه وتعالى كان قادرا ان ينص ما تاولَه اهل الله وغيرهم في كتابه كايات المتشابهات والحروف اوائل السوَر، ومع ذلك فما فعل سبحانه وتعالى، بل ادرج في تلك الكلمات الالهية والحروف علوما اختصاصية لا يعلمها الا عباده الخُلَّص. ولو ان المنكرين كانوا ينصفون لاعتبروا في انفسهم اذا راوا الاية بالعين الظاهرة التي يسلمونها فيما بينهم، فيرون انهم يتفاضلون في ذلك ويعلمون المزية لبعضهم على بعض في الكلام والفهم في معنى تلك الاية، ويقر القاصر منهم بفضل غير القاصر عليه وكلهم في مجرى واحد. ومع هذا التفاضل المشهور فيما بينهم ينكرون على اهل الله تعالى اذا جاءوا بشيء يغمض عن ادراكهم".

قال: "وكل ذلك لكونهم لا يعتقدون في اهل الله تعالى انهم يعلمون الشريعة، وانما ينسبونهم الى الجهل والعامية، لاسيما ان لم يقرءوا على احد من علماء الظاهر. وكثيرا ما يقولون: من اين اتى هؤلاء العلم، لاعتقادهم ان احدا لا ينال علما الا على يد معلم. وصدقوا في ذلك، فان القوم لما عملوا بما علموا اعطاهم الله تعالى علما من لدنه باعلام رباني انزله في قلوبهم مطابقا لما جاءت به الشريعة لا يخرج عنها ذرة. قال تبارك وتعالى ﴿خَلَقَ الانْسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ﴾ وقال ﴿عَلَّمَ الانْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ وقال في عبده خضر ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَّدُنَّا عِلْما﴾.

"وصدق المنكرون في قولهم: ان العلم لا يكون الا بواسطة معلم. واخطئوا في اعتقادهم ان الله تعالى لا يعلم من ليس بنبي ولا رسول. قال تعالى ﴿يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ﴾، والحكمة هي العلم، وجاء بمَنْ وهي نكرة. ولكن هؤلاء المنكرون لما اثروا الدنيا على الاخرة وعلى ما يقرب الى الله تعالى، وتعودوا اخذ العلم من الكتب ومن افواه الرجال، حجبهم ذلك عن ان يعلموا ان لله تعالى عبادا تولى تعليمهم في سرائرهم، اذ هو سبحانه المعلم الحقيقي للوجود كله، وعلمه هو العلم الصحيح الذي لا يشك مؤمن ولا غير مؤمن في كماله". ثم قال بعد كلام: "فعُلم ان من كان معلِّمَُه الله تعالى كان احق بالاتباع ممن كان معلمه فكره. ولكن اين الانصاف".

ثم قال بعد كلام ايضا: "واين تكذيب هؤلاء المنكرين لاهل الله تعالى في دعواهم العلم من قول مولانا علي بن ابي طالب رضي الله عنه: لو تكلمت لكم في تفسير سورة الفاتحة لحملت لكم منها سبعين وقرا، فهل ذلك الا من العلم اللدني الذي اتاه الله تعالى من طريق الالهام، اذ الفكر لا يصل الى ذلك".

قال: "وقد كان الشيخ ابو يزيد البسطامي رضي الله عنه يقول لعلماء زمانه: اخذتم علمكم ميتا عن ميت، واخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت". وكان الشيخ ابو مدين رضي الله عنه يقول لاصحابه اذا سمع احدا منهم يقول: اخبرني فلان: لا تطعمونا القديد. يريد بذلك رفع همة اصحابه. يريد: لا تحدثوا الا بفتوحكم الجديد الذي فتح الله تعالى به على قلوبكم في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فان الواهب للعلم الالهي حي لا يموت، وليس له محل في كل عصر الا قلوب الرجال" ه.

فتلخص من هذا كله ان علوم اهل الله تعالى مواهب ربانية، ومنائح حقانية، استتر لها صفاءَ السرائر، وخلوصَ الضمائر، فاستعصت بكنهها عن الاشارة، وطفحت على العبارة اه.

وانما استعصت على الاشارة لانها امور شهودية ذوقية، وما كان كذلك لا يستعمل فيه الاشارة والايماء والرمز. وهذه الامور الشهودية بكنهها وحقيقتها تستعصي على الاشارة فلا يُدرك كنهُها بذلك، وانما يدرك بالشهود والكشف.وانما كانت هذه العلوم لا يستعمل فيه الا الاشارة[1] لان العبارة تزيدها غموضا. قال الشيخ علي الرُّوذباري: "علمنا هذا اشارة، فاذا صار عبارة خفي" اه.

ومن هنا احتاج اهل الله تعالى الى وضع الاشارات المصطلح عليها فيما بينهم، فيتكلمون بها عند حضور الغير، وفي تاليفهم ومصنفاتهم لا غير. ولم يضعوها لانفسهم لانهم يعرفون الحق الصريح في ذلك.

والحامل لهم على وضعها الشفقة على الدخيل بينهم خشية ان يسمع منهم، او يرى في تاليفهم، شيئا لا يصل اليه فهمه فينكره فيعاقب بحرمان علمه فلا يعلمه بعد، والعياذ بالله تعالى. اه نقله في [اليواقيت] عن الشيخ محي الدين رضي الله عنه.

قال: "ومن اعجب الاشياء في هذه الطريقة، ولا يوجد الا فيها، انه ما من طائفة تحمل علما من المنطقيين والنحاة واهل الهندسة والحساب والمتكلمين الا ولهم اصطلاح لا يعلمه الدخيل فيهم الا بتوقيف من الشيخ او من اهل هذا الفن، لا بد من ذلك، الا اهل هذه الطريقة خاصة. فان المريد الصادق اذا دخل طريقهم وما عنده خبر بما اصطلحوا عليه، وجلس معهم، وسمع منهم ما يتكلمون به من الاشارات، فَهِمَ جميع ما يتكلمون به حتى كانه الواضع لذلك الاصطلاح ويشاركهم في ذلك. ولا يستغرب ذلك من نفسه، بل يجده علما ضروريا لا يقدر على دفعه. فكانه لا زال يعلمه ولا يدري كيف حصل له. هذا شان المريد الصادق. واما غيره فلا يعرف ذلك الا بتوقيف منهم" اه.

قلت: وذلك لان المريد الصادق لا يرى الا ما يسره، وكلُّ ما اشكل عليه في علوم يلهمه الله تعالى فهمه، وذلك من ثواب صدقه. بخلاف غيره، فانه لا يعرف شيئا من ذلك الا بتوقيف من شيخ مربّ او اخ مرشد لا غير. وهذا لا يجوز له الخوض في علوم الطريق حتى يعرف ما اصطلحوا عليه، اي ما اصطلح عليه اهل الطريق فيما يتكلمون به من الاشارات في تاليفهم. قال بعض الشيوخ: "من لم يعرف مصْطَلَحْنا عليه لا يجوز له الخوض في طريقنا" اه. ومن هنا كان الاستاذ القشيري رضي الله عنه يقول: "نَهَوا المريدَ ان يطالع في شيء من كتب القوم من غير قراءة على شيخ او اخ عارف بما اصطلحنا عليه" ه. وكان بعض العارفين يقول: "نحن قوم يَحْرُم النظر في كتبنا على من لم يكن من اهل طريقتنا، وكذلك لا يجوز ان يُنْقَل كلامُنا الى من يؤمن به، فمن نقله لمن لا يؤمن به دخل هو والمنقولُ اليه جهنم الانكار. وقد صرح بذلك اهل الله تعالى على رؤوس الاشهاد، وقالوا: "من باح بالسر استحق القتل" اه.

فان قيل: هلا طوى العلماء من اهل الطريق بساط التاليف والتصنيف في مثل هذه العلوم، وامسكوا عن الخوض في رقائق الاشارات ودقائق هذا السر المكتوم، لان الكلام في ذلك ربما اضَرَّ بالقاصرين من الفقهاء فضلا عمن عداهم، بل ربما خفيت وجوه المخرج فيه عن بعض النبلاء، فضلا عمن سواهم. اما كان عندهم من الحكمة، والنظر للخلق بعين الشفقة والرحمة، ما يمنعهم من الخوض في ذلك، والتقَحُّم لمضايق هاتيك المسالك.

قلنا: قد ذكر في [اليواقيت والجواهر] عن العارف بالله تعالى سيدي علي بن وفا رضي الله عنه انه قيل له مثل هذا، فاجاب بقوله رضي الله عنه: "يقال لهذا القائل: اليس الذي اطلع شمس الظهيرة، ونشر ناصع شعاعها، مع اضراره بابصار الخفافيش ونحوها من اصحاب الامزجة الضعيفة عليما حكيما. فان قال: صحيح ذلك، ولكن عارض ذلك مصالح اخر تربو على هذه المفاسد، قلنا له: وكذلك الجواب عن مسالتك. فكما ان الحق سبحانه وتعالى لم يترك اظهار انوار شمس الظهيرة مراعاة لابصار من ضعف بصره، فكذلك العارفون لا ينبغي لهم ان يراعوا افهام هؤلاء المحجوبين عن طريقهم، بل الزاهدين فيها، بل المنكرين عليها". واطال – اعني العارف ابن وفا – في ذلك، ثم قال: "وهل به دوّن المجتهدون من التابعين وما بعدهم ما استنبطوه من الكتاب والسنة ليستعان به على هوى النفس، وحب الرياسة والجاه، وكسب الدنيا به، والمزاحمة على التقرب من الملوك والامراء. والله ما كان ذلك قصدهم، ولكن كان امْرُ الله قَدَرا مَقْدورا".

ثم قال رضي الله عنه: "فكما ان المجتهدين لم يُمنعوا من تدوين العلم الذي يكتسب الناس به بعض الدنيا، بل جعل الشارع لهم اجر نيتهم الصالحة وان لم يعمل الناس بذلك، فكذلك العارفون لهم اجر نيتهم وقصدهم الصالح من نفع المريدين بما وضعوه من الحقائق الكاشفة لمشكلات علم التوحيد وامراض القلوب".

ثم قال رضي الله عنه: "ومن فوائد تدوينهم تلقيح قلوب الناظرين في رسائلهم من بعدهم فيظفروا من تلك المعاني بما يرقيهم، ويبعث سحائب الرحمة على قلوبهم وعلى السنتهم فتُشْرِق ارض قلوبهم بنور رشدهم تحيى باثر هدايتهم. فنابت عنهم رسائلهم في نصح المريدين من بعد موتهم. وكان تدوين معارفهم واسرارهم من احق الحقوق عليهم لكون غيرهم لا يقوم مقامهم في تدوين ادوية امراض القلوب واداب حضرات الحق تعالى في جميع الامور المشروعة، فان لكل مقام حضورا وادابا تخصه" اه.

وانما ارخينا من عنان القلم في جلب هذه الانقال هنا تتميما للفائدة المقصودة من هذا المطلب الشريف، وتنشيطا لهمم المريدين على التعلق بمَرْقب هذا العلم السني المنيف. اذ لا محالة انه العلم النافع، والنور الذي يقذفه الله تعالى في قلب من شاء من خواص عباده بلا منازع ولا مدافع.

قال الامام المحدث الصوفي ابو عبد الله سيدي محمد بن علي الترمذي رحمه الله تعالى ورضي عنه: "العلم النافع هو الذي تمكن في الصدر وتصور. وذلك ان النور اذا اشرق في القلب، وتصورت الامور حَسَنُها وسيئُها، وقع بذلك ظل في الصدر. فهو صورة الامور، فياتي حسنَها، ويجتنب سيئها، فذلك العلم النافع. فمن نور القلب خرجت تلك العلامات الى الصدر، وهي علامات الهدى. والعلم الذي تتعلمه – وهو علم اللسان – انما هو شيء قد استُوِدع الحِفظ، والشهوةُ غالبة عليه قد احاطت به واذهبت بظلمتها ضوءه" اه.

وهذا العلم – اعني العلم النافع هو المراد في قول امام الائمة مالك بن انس رضي الله عنه: "ليس العلم بكثرة الروايات، وانما هو نور يقذفه الله في القلوب". اه. قال سيدي ابو عبد الله بن عباد رحمه الله تعالى ورضي عنه: "ومنفعة العلم ان يقرِّب العبد من ربه، وان يبعده عن رؤية نفسه. وذلك غاية سعادته، ومنتهى طلبه وارادته" اه.

وقد نقل رحمه الله تعالى في حقيقة العلم النافع عن الامام الجنيد رضي الله عنه عبارة وجيزة سنية، جامعة لما دار عليه مقصد علوم الصوفية، وهو: معرفة الله تعالى وحسن الادب بين يديه سبحانه فقال: "قال الجنيد رحمه الله تعالى: العلم ان تعرف ربك، ولا تعدو قدرك" اه.

ثم قال رحمه الله: "وهذه العلوم هي العلوم التي ينبغي للانسان ان يستغرق فيها عمره الطويل، ولا يقنع منها بالكثير ولا بالقليل. قال سيدي ابو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: من لم يتغلغل في هذه العلومِ - يعني علومَ اهل الله تعالى – مات مصرا على الكبائر وهو لا يعلم" اه.

قال سيدي محمد بن عباد رحمه الله تعالى: "وما سوى هذه العلوم قد لا يحتاج اليها وربما اضر بصاحبها مداومته عليها. وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع" اه.

وقال الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى مشيرا الى بيان منفعة العلم ما نصه: "العلم علمان":

 - علم لا يُحتاج منه الا مثلُ ما يُحتاج اليه من القوت، فينبغي الاقتصاد فيه، والاقتصار على قدر الحاجة، وهو علم الاحكام الشرعية. لا يُنْظَرُ منه الا قدر ما تمس الحاجة اليه في الوقت. فان تعلق ذلك انما هو الافعال الواقعة في الدنيا، فلا تاخذْ منه الا قدر عملك.

-   وعلم لا حد له يوقف عنده، وهو العلم المتعلق بالله تعالى وبمواطن الاخرة ليستعد العبد لكل موطن بما يليق به" انتهى.

تحذير

لا يكن هذا الذي جلبناه في هذا المحل من الانقال، الرادعة لاهل الانكار والضلال، ذريعة الى اكل لحوم الائمة المهتدين، الذين هم حملة الشريعة المطهرة واعلام السنة والدين، فان وبال ذلك والعياذ بالله تعالى عظيم، ومرتعه لا محالة وخيم.

قال الامام ابو القاسم بن عساكر رحمه الله تعالى ورضي عنه: "اعلم يا اخي، وفقني الله واياك لمرضاته، وجعلنا جميعا ممن يخشاه ويتقيه حق ثقاته، ان لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله تعالى في هتك استار متنقصيهم معلومة، وان من اطلق لسانه في العلماء بالثَّلْب، ابتلاه الله تعالى قبل موته بموت القلب. ﴿فَلِيَحْذَرَ اللَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ امْرِهِ انْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ اوْ يُصِيبُهُمْ عَذَابٌ الِيمٌ﴾" اه ينقل العلامة الحطاب رحمه الله تعالى في اول [شرحه لمختصر الشيخ خليل] رحمه الله تعالى ورضي عنه امين.

ومن الامثال في هذا المعنى قول الشاعر.

 

لحوم اهل العلم مسمومة

 

 

ومن يعاديهم سريع العَطَبْ

 

وليَكْفِ هذا القدر فيما اردنا في هذا المطلب ايراده، مما ينتفع به ان شاء الله تعالى كل محب راغب في طريق الارادة.

واعوذ بالله تعالى ان ادعيَ فيما اتيت به من هذه النقول، اشرافا على شيء من اذواق اصحابها الاكابر الفحول، وانما هو شيء اوردته، على حسب ما تعقلته، ليكون لي ولمن وافقني في تعقله تذكرة وتبصرة في الغرض الذي قصدته، والمرمى الذي انتحيته.

وجلَّّت علومُ اهل الله تعالى ان يُتَصرَّف فيها ببضاعة العقل، وخصوصا في زمن انطمست فيه معالم الخير واندرست فيه مراسم الفضل، واستولت على اهله –الا من عصمه الله بفضله– عوارض الهوى فارتكموا في اودية الضلال والجهل. فعي واسمعي، واياك اعني يا جاره، وليس الى غير نفسي يساق حديث هذه الاشارة.

وقديما قال الاستاذ السَّهْرَوَرْدي رضي الله عنه، بعد ان تكلم في بيان شرف علم الطريق وشفوف مرتبته، وعلو قدره ومنزلته، ما نصه: "وقد اندثر كثير من علومهم، كما انطمس الكثير من حقائق رسمومهم". ثم قال: "وقال الجنيد رضي الله عنه: علمنا هذا طوي بساطه منذ كذا سنة، ونحن الان نتكلم في حواشيه" اه. ثم قال: "هذا القول من الجنيد في وقته، مع قرب العهد من علماء السلف وصالحي التابعين، فكيف لنا ذلك مع بعد العهد وقلة العلماء الزاهدين، والعارفين بحقائق الدين" اه.

واقول: هذا من الاستاذ السَّهْرَوَرْدي في زمانه الصالح، المستضاء فيه بغرر امثاله القادة الاعيان، فانَّى لنا ذلك ونحن في اخر ذنب الازمان، مع ما غلب من استيلاء الغفلة واستحواذ الشيطان، وتراكم ظلم الغَوَاية والخِذلان.

اللهم انا نسالك العافية الكاملة، الدائمة الشاملة، بفضلك وكرمك يا ارحم الراحمين، يا رب العالمين.

 

[1] ـ وجاء في تصحيح المعطي بن محمد على الأصل زيادة " والرمز وهذه الأمور الشهودية بكنهها وحقيقتها تستعصي على الإشارة فلا يدرك كنهها بذلك وإنما يدرك بالشهود والكشف، وإنما كانت هذه الأمور لا يستعمل فيها إلا الإشارة لا العبارة لا تزيدها الخ "

بغية المستفيد لشرح منية المريد

Centro de Estudio y Difusión de la Vía Tiŷāniyya