Índice

Presentación

Introducción al sufismo

La vida de Šayj Aḥmad al-Tiŷānī

Las condiciones de la Vía Tiŷāniyya

El método de la Vía Tiŷāniyya

Los favores de la Vía Tiŷāniyya

La Fayḍa Tiŷāniyya

Šayj Ibrāhīm Nyasse

Šayj cAbda-l·lāh Djā

Enseñanzas de la Vía Tiŷāniyya

Súplicas de la Vía Tiŷāniyya

Lengua árabe

Fiqh Mālikī

Noticias

Multimedia

Enlaces

Contactar

بغية المستفيد

لشرح منية المريد

 

تأليف

سيدي العربي بن السائح الشرقي العمري التجاني


مقدمة

تشتمل على سبعة مطالب مهمة


المطلب الرابع

فِي بَعْضِ مَا يَخْتَصُّ بِالْمُرِيدِ مِنْ ادَابِ الصُّحْبَةِ وَالاخُوَّةِ وَبَيَانُ مَا يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الوَفَاءِ وَكَمَالِ الفُتُوَّةِ.


لا خفاء ان حقوق الصحبة والاخوة وادابها على ما سيتبين قريبا ان شاء الله تعالى من اعظم الحقوق واكد الاداب، اذ هي العصمة في مدارج السير والسلوك الى حضرة رب الارباب، وخصوصا في طريقتنا هذه الاحمدية التجانية، لقول سيدنا رضي الله عنه: "من ابتلي بتضييع حقوق الاخوان ابتلاه الله تعالى بتضييع الحقوق الالهية".

 وقد سمعت بعض اصحابه رضي الله عنهيقول: "سمعت سيدنا ومولانا الشيخ رضي الله عنه يقول: اني لكثيرا ما اهم بوضع مؤلف في اداب الطريق". تنبيها منه رضي الله عنه على ان الادب من اهم المهمات واكدها في الطريق، وان من تمسك به فيها فقد تمسك بالسبب الاقوى والحبل الوثيق. فلهذا جعلت هذا المطلب تابعا للمطالب قبله، واثرت ان يكون كالتحصيل لمسائلها والتتمة والتكملة. فاقول والله المستعان، وعليه التكلان، لا اله غيره، ولا خير الا خيره.

اعلم ان درجة الصحبة والاخوة عند الله تعالى درجة شريفة، ومرتبتها من الطريق مرتبة سامية منيفة، قد اختراها ورغب فيها واثرها جمع من السلف، وتابعهم على ذلك الجم الغفير من جماهير الخلف.

 ومما استندوا له فيما ذهبوا اليه من اختيارها، واستانسوا به لما اعتمدوه من ايثارها، ما راوا من ان الله تعال مَنَّ على اهل الايمان حيث جعلهم اخوانا، فقال سبحانه وتعالى ﴿فَاصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ اخْوَانَا﴾، وقال سبحانه وتعالى ﴿هُوَ الَّذِي ايَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالمُؤْمِنِينَ وَالَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ الاية. فقد دلت هذه الاشارة الكريمة، على ان الصحبة والاخوة منة عظيمة، ونعمة جسيمة، امتن الله تعالى بها على من شاء من عباده المؤمنين المتحابين في جلاله، المتواخِّين في طلب مرضاته والوصول الى حضرة كماله، وفي ذلك كما لا يخفى غاية الحث عليها، والترغيب فيها والندب اليها.

وقد دلت السنة المطهرة على ذلك ايضا. ففي [الدر المنثور]: اخرج ابن مردويه عن سعد بن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(اذَا كَانَ يَوْمُ القِيَّامَةِ، انْقَطَعَتْ الارْحَامُ، وَقَلَّتِ الاسْبَابُ، وَذَهَبَتِ الاخُوَّةُ الا الاخُوَّةَ فِي اللهِ تَعَالَى)، وذلك قوله سبحانه وتعالى ﴿الاخِلاءُ يَوْمَئِذٍ﴾" الاية ا ه.

وفي وصية سيدنا عمر الفاروق المُثْنَى عليه بان (الحق ينطق على لسان عمر)، والمامور بالاقتداء به في قوله صلى الله عليه وسلم (اقْتَدَوُا بِاللَّذِينَ مِنْ بَعْدِي ابِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) رضي الله عنهما: "عليك باخوان الصدق تعش في اكنافهم، فانهم زينة في الرخاء، وعدة في البلاء"اه .

وذكر في [العوارف] عن سيدنا عمر ايضا رضي الله عنهانه قال: "لو ان رجلا صام النهار، وقام الليل، وتصدق، وجاهد، ولم يحبْ في الله، ولم يُبْغضْ في الله، ما نفعه ذلك" ا ه. ومن لوازم الحب في الله تعالى المؤاخاة فيه، ولذلك يطلق احدهما على الاخر.

وروى في[العوارف] ايضا بسنده الى الاستاذ ابي القاسم القشيري انه قال: "سمعت ابا عبد الرحمن السُّلَمِي يقول: سمعت عبد الله بنَ المعلّم يقول: سمعت ابا بكر الطِّمَسْتَاني يقول: اصحبوا مع الله، فان لم تطيقوا فاصحبوا مع من يصحب مع الله لتوصلكم بركة صحبته الى صحبة الله".

 وروي فيها ايضا بسنده الى الشيخ ابي جعفر الحداد رضي الله عنهانه سمع الشيخ علي بن سهل يقول: الانس بالله ان يُسْتَوْحَشَ من الخلق الا من اهل ولاية الله، فان الانس باهل ولاية الله هو الانس بالله.

وذكر فيها ايضا: ان الله تعالى اوحى الى داود عليه السلام قال: "يا داود، مالي اراك منتبذا وحدانيا". قال: "الهي قليْت الخلق من اجلك". فاوحى الله اليه: "يا داود كن يقظانا، وارتد لنفسك اخوانا، وكل خِدْنٍ لا يوافقك على مسرتي فلا تصحبه فانه لك عدو يُقَسِّي قلبَك ويباعدك منى". اه

ولهذا كانت الصحبة والصداقة عند الاحرار يراعى لها من الحقوق ما يراعى لاخوة النسب على ما قيل: "الصداقة لُحْمَة كلحْمة النسب" بل الحق انها، اعني الصداقة والاخوة في الله تعالى اكد حقا من اخوة النسب. قيل لبعضهم "ايهما احب اليك اخوك او صديقك" قال: "انما احب اخي اذا كان صديقي".

قال الشيخ زروق رضي الله عنهفي [شرحه للوَغْلِيسية] ما نصه: "قال العلماء: القرابة قرابتان: قرابة طينية، وقرابة دينية وهي اولى من القرابة الطينية" ا ه.

 وذكر الشيخ محي الدين رضي الله عنهفي [الفتوحات المكية]: "ان شخصا دخل على شيخه ففاوضه في معنى قولهم: ﴿الاقْرَبُونَ اوْلَى بِالمَعْرُوفِ﴾ قال : فقال الشيخ من غير توقف: الى الله يا فلان اه . يعني الاقربون الى الله اولى بالمعروف من الاقربين من جهة النسب. وقال الشيخ زروق رضي الله عنه: "الصداقة من قواعد الدين والدنيا" اه.

ومما يشير الى شرف منْزلتها، وكمال فضيلتها، زيادة على ما تضمنته اشارات هؤلاء الاعلام، ما اشتملت عليه من الفوائد العظام، والكرامات والبركات والخيرات الجسام.

قال في [الجيش الكبير] ما نصه": ثم الفوائد المطلوبة من الصحبة دينية ودنيوية. اما الدنيوية فكالانتفاع بالمال والجاه، وليس ذلك من غرضنا. واما الدينية فتجتمع فيها اغراض مختلفة اذ منها الاستفادة بالعلم والعمل، ومنها الاستفادة في الجاه تحصنا من ايذاء من يشوش القلب، ويصد عن العبادة، ومنها التبرك بالدعاء، ومنها انتظار الشفاعة، الى غير ذلك" اه.

وفي [العوارف]: انه يقع بطريق الصحبة التعاضد والتعاون، وتتقوى جنود القلب، وتستروح الارواح بالتشام، وتتفق في التوجه الى الرفيق الاعلى، ويصير مثالها في الشاهد كالاصوات اذا اجتمعت خرقت الاجرام، واذا انفردت قَصُرت عن بلوغ المرام. وقد ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (المُؤْمِنُ كَثِيرٌ بِاخِيهِ)

 قلت وفي الخبر عنه صلى الله عليه وسلم (المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ المَرْصُوصِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَا).

وفي [العوارف] ايضا: "ان من فوائد الصحبة والاخوة انها تفتح مسام الباطن، ويكتسب الانسان بها علم الحوادث والعوارض" اه.

قلت : ويريد بهذا، والله اعلم، انه يتقوى نور الفراسة الايمانية باسمتداد البعض من البعض، وسريان سر البعض الى البعض، اذ من فوائدها ما يسري من الفاضل الى المفضول، من السر الباطني الذي هو منتهى القصد من الصحبة وغاية السول. وقد قيل: "من تحقق بحالة لم يخل حاضروه منها".

واحط الناس مرتبة في مقام الصحبة للاخيار المحب لهم فقط، وكفاه ان لم يكن منهم فهو معهم، لحديث (الْمَرْءُ مَعَ مَنْ احَبَّ). وفي مختصر الاحياء بعد كلام في الصحبة ما نصه: " فاصحب الاخيار ان لم تكن منهم فانت معهم" اه يريد: اصحبهم بالمحبة والتسليم لتكون معهم وان لم تكن منهم، فان ( الْمَرْءَ مَعَ مَنْ احَبَّ).

وبالجملة ففي مخالطة الاخيار مع التسليم والمحبة خير كثير، بل المخالطة اصل كبير في الانتفاع. ولهذا قالوا: "انها - اعني المخالطة – تغني عن غيرها ولا يغني غيرها عنها". وقد ذكر عن العارف بالله تعالى سيدي عبد الرحمن بن مَحمد الفاسي رضي الله عنهانه قال لرجل من اصحاب بعض الاولياء من اهل عصره وقد راه لا يخالط الفقراء: "ماذا يامركم به شيخكم" فقال: "بِالسُّبَيْحَةِ وَاللُّوَيْحَةِ"، فقال له رضي الله عنه: "ليست هذه الطريق بِالسُّبَيْحَةِ ولا باللُّوَيْحَةِ وانما هي بالمخالطة، خالط الجذمى تجذم" اه.

وقد ذكروا ان لقاء الاخوان لقَاح. ولا شك ان البواطن تُلْتَقَحُ بالملاقاة، وان مجرد النظر لاهل الصلاح يؤثر صلاحا، بل كل نظر في الغالب يؤثر اخلاقا مناسبة لِخُلُق المنظور اليه. كما ان النظر الى المسرور يورث سرورا، والى المحزون يُكسب حزنا، والجَمَلَ الشَّرود يصير ذلولا بمقارنة الذلول، والماءَ والهواءَ يفسدان بمقارنة الجِيَفَ، والزروعَ تُنْقَى عن العروق المجاورة لها لموضع الافساد بالمقاربة. فالمقاربة لها تاثير في الحيوان والنبات والجماد والماء والهواء، واذا كانت كذلك فهي في النفوس الشريفة البشرية اكثر تاثيرا.

ومن فوائد الصحبة ايضا: تحمُّل البعض من المتصاحبين عن البعض في دار الدنيا ما ينزل بهم من المصائب والاحزان، وتلقيهم للوارد عليهم منهم في البرزخ بحسن البشر ومزيد الكرامة والبرور والاحسان، واخذ البعض منهم بيد البعض يوم القيامة، وشفاعته له في نيل المغفرة والدرجات العلى في دار الرضوان.

 وقد ذكر في [العوارف]: "ان احد الاخوين في الله تعالى يقال له : ادخل الجنة. فيسال عن منْزلة اخيه، فان كان دونه لم يدخل الجنة حتى يعطى اخوه مثل منزلته، فيقال له: لم يكن يعمل مثل عملك، فيقول: اني كنت اعمل لي وله. فيعطي جميع ما يساله لاخيه، ويرفع اخوه الى درجته" اه.

فهذا بعض ما يشير الى جلالة قدر صحبة الاخيار، وانَافة مكانة مواخاة الابرار، على طريق الايجاز والاختصار، وفيه كفاية لمريد التذكر والاستبصار.

ولهذا الذي ذكرناه من سمو درجتها، وشرف مكانتها، خصت بالحقوق العظيمة الاكيدة، وحُفَّتْ بمحاسن الاداب والاخلاق الحميدة.

فمن ادابها الخاصة عند ارادة الدخول فيها ان يُسْلِمَ المدخولُ معه على الصحبة والاخوة نفسه، وصاحبُه الداخلَ معه عليها الى الله تعالى، بالاجتهاد في المسالة، والدعاء والتضرع، لانه يفتح على نفسه بصحبته اما بابا من ابواب الجنة، واما بابا من ابواب النار. فان فُتِح عليهما في مصاحبتهما بخير وداما عليه الى ان ماتا عليه فقد فتح على نفسه بتلك الصحبة بابا من ابواب الجنة. قال مولانا سبحانه وتعالى ﴿الاخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ الا الْمُتَّقِينَ﴾.

 والا بان نشا عن صحبتهما شر، والعياذ بالله تعالى، قطعهما عن الله تعالى، فقد فتح على نفسه بصحبته بابا من ابواب النار. قال تعالى ﴿وَيَوْمَ يَعُضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ﴾ الاية. وهي، وان كانت نزلت في سبب خاص وقصة مشهورة، فان لله تعالى تنبيها في ذلك لعباده على الحذر ممن تَقْطع صحبته عن الله تعالى. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "وهل يُفْسِدُ الناسَ الا الناسُ. فالفساد بالصحبة مُتَوَقَّع، كما ان الصلاح متوقع. وما هذا سبيله كيف لا يَحذر في اوله، ويُحكم الامر فيه بكثرة اللجا الى الله تعالى، وصدق الافتقار وسؤال البركة فيه، وتقديم صلاة الاستخارة، الى غير ذلك. انظر العوارف. قلت : وما رايت ولا سمعت اكثر قياما بهذا، ولا اشد اعتناء به من اصحاب سيدنا رضي الله عنهالذين صحبوه قيد حياته وحصل لهم التاهل لتلقين ورده. فانهم كانوا اذا اتاهم من يريد الدخول في الصحبة والاخوة يظهر عليهم من الاهتمام بشانه، والاجتهاد في الدعاء له ولهم معه بالثبات في الامر، مع اسناد الامر منهم في ذلك الى همة الشيخ رضي الله عنه باظهارهم ان يدهم فيه انما هي يد نيابة لا غير، وانهم ليس لهم فضل على من يلقنونه، ولاحظ لهم فيما يعاملونه به من بذل النصيحة وكمال الارشاد، الا ما يرجونه من فضل الله تعالى بسبب التبليغ ظاهرا لا غير.

 ورايت منهم من لا يلقن احدا الا بعد صلاة الاستخارة النبوية وصدق اللجا الى الله تعالى على اكمل ما يمكن. ومنهم من كان يزيد مع الاستخارة قراءة ما تيسر من صالة الفاتح لما اغلق ويهدي ثوابها الى الشيخ رضي الله عنه، ويستاذنه في تلقين ورده لذلك الانسان الذي طلبه منه بقلبه، او بقلبه ولسانه بان يقول: "هذا فلان طلب مني ان القنه، وها انا القنه عن اذنك وببركة همتك" ونحو ذلك.

وقد اخبرني الناظم قدس الله سره انه لما عزم على الدخول في هذه الطريقة الشريفة اتى هو ورفيق له الى العلامة الكبير، المقدم البركة الشهير، ابي عبد الله سيدي مُحَمَّدْ المدعو مُحَمْدَ ابن سيدي عبد الله العلوي، المدعوِّ الخليفة لقيامه بعد الشيخ الجليل سيدي محمد الحافظ العلوي باعباء تلقين الاوراد، والهداية والارشاد. فلما طلبا منه رضي الله عنهان يلقنهما الورد ظهر عليه ما ظهر من اثر الاهتبال لذلك، ولم يَقِرَّ له قرار حتى سار بهما الى ضريح سيدي محمد الحافظ رضي الله عنه، وكان على مسافة من محله. فلما ادى الواجب من التسليم عليه وزيارته، امرهما ان يدنوا من القبر المبارك، ثم خاطبه وهما يسمعان بان قال له بلسان يعلم منه غاية الخضوع والانكسار، والعجز والافتقار: "هذا فلان بن فلان وفلان بن فلان جاءا يطلبان مني ان القنهما ورد مولانا الشيخ رضي الله عنه، وها انا القنهما عن اذنك واذن الشيخ رضي الله عنه". ثم لقنهما. واكثر الدعاء بذلك المحل المبارك له ولهما.

 وقد اتفق للناظم ايضا رحمه الله مثل هذا بفاس. فلقنه بعض مشاهير اصحاب سيدنا رضي الله عنهعند قبره الانور رضي الله عنهعلى نحو ما تقدم. وهذا من عناية الله تبارك وتعالى به. وقد ظهر عليه اثر ذلك فصار امره الى ما صار اليه من التبريز في التحقيق، وبلوغ درجة الكمال في الصدق والتصديق.

ومنهم من كنت اراه اذا اراد ان يلقن احدا يامره ان يحضر الوظيفة مع الفقراء بالزاوية في وقتها المعلوم، فاذا ختمت الوظيفة يظهر على وجهه من اثر الحضور ما يعلم منه انه يستاذن في ذلك الحضرة الشريفة. ثم بعد الفراغ من القراءة والدعاء، يتوسم وجوه الحاضرين كالمستمد من بركاتهم، ويقول لهم : هذا "فلان قد اراد الدخول في عهد الشيخ رضي الله عنه". ثم يلقنه، ويجتهد هو والحاضرون في الدعاء له.

وانما اطلت النفس في هذا الادب تنبيها ونصيحة للاخوان، وارشادا الى العمل على هذا الادب والقيام به بقدر الامكان. فربما يرى بعض المتصدين للتلقين، اذا كان غِرّا بمدارك الامور، ما في كتاب [جواهر المعاني] وغيره من ان هذا الورد الشريف يلقن لكل من طلبه من المسلمين على اي حالة كان : كبيرا او صغيرا، ذكرا او انثى، طائعا او عاصيا، فيظهر له ان المراد بهذا الكلام الامرُ بالمسارعة الى التلقين من غير تثبت ولا تانّ ولا قيام باداب المقام. وليس الامر كذلك، بل لابد من التثبت والتاني. فلا يلقِّن الطالبَ لذلك الا بعد عرضه الشروط المشروطة في ذلك عليه وايناسه منه قبولها القبول التام. كيف وهو يرى بازاء هذا الكلام من [جواهر المعاني] قولَ سيدنا رضي الله عنه: "ومن اخذ هذا الورد وتركه تركا كليا او متهاونا به حلت به العقوبة، وياتيه الهلاك في الدنيا والاخرة" الى اخر كلامه رضي الله عنهالمؤكد بالوصية التي هي من لفظ سيد الوجود صلى الله عليه وسلم.

 فالعمل على هذا الادب من اكد الامور في هذه الطريقة واهمها، لما يفضي اليه ترك العمل عليه من التسبب في العقوبة والهلاك والعياذ بالله تعالى. والله تعالى يلهمنا الرشد والصواب، ويختار لنا من الحركات والسكنات في جميع التقلبات ما تحمد به العاقبة في الحياة وعند الماب، انه الكريم الجواد الفتاح الوهاب.

ومن اداب الصحبة والاخوة عند ارادة الدخول فيها ايضا: ان يسال كل منهما صاحبه عن اسمه واسم ابيه وعن منزله، لما روى ان النبي صلى الله عليه وسلم راى ابن عمر رضي الله عنهم يلتفت يمينا وشمالا فساله فقال يا رسول الله اني احببت رجلا في الله تعالى فانا اطلبه ولا اراه فقال له صلى الله عليه وسلم: (يَا عَبْدَ اللهِ اذَا احْبَبْتَ فِي اللهِ احَدا فَاسْالْهُ عَنْ اسْمِهِ وَاسْمِ ابِيهِ وَعَنْ مَنْزِلِهِِ، فَانْ كَانَ مَرِيضا عُدْتَهُ، وَانْ كَانَ مَشْغُولا اعَنْتَهُ) اه.

وقد رايت بعض الاصحاب يعمل على هذا الادب حتى ربما قيد اسماءهم ان لم يكونوا من اهل البلد الذي هو فيه. ولا شك ان ذلك من الاعتناء بحقوق الاخوة في الله تعالى، وقد علم ما في ذلك من الخير. والله الموفق.

ومن اداب الاخوة التودد والتالف بكل ما يُقْدَرُ عليه ويستطاع فعله مع الاخ من الافعال التي تُسْتَجلب بها مودته، وتصفوا بها اخوته. وهذا الادب هو الاصل الجامع لسائر الاداب كلها، واليه مرجع الاخلاق الحسنة باسرها، ولهذا كان راس العقل كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : (رَاسُ العَقْلِ بَعْدَ الايمَانِ بِِاللهِ تَعَالَى التَّوَدُّدُ الَى النَّاسِ). ويكون التودد بامور هي معظم اداب الاخوة في الله تعالى:

منها : ان يحفظ الاخ قلبه بقدر استطاعته من ان يضمر فيه سوءا لاخيه اذا راى منه ما يكره. وحفظ القلب من ذلك يكون بتنبيهه اياه على ما كرهه منه، لكن بلطافة وحسن سياسة بحيث يفارق ما كرهه منه وهو لا يشعر انه مقصود من اخيه بذلك التنبيه. وهذا اولى متى امكن لجريه على سَنَن الاخلاق المحمدية، ولبعده عن مظان الضغينة وغيرها مما يؤدي الى فساد الطوية.

فان لم يكن هذا، وادى الحال الى التنبيه بالكلام، فليكن في الخلا لا في الملا، وبتقديم تمهيد يانس به المنصوح بحيث يقع في نفسه ذم ما اراد ان يامره الناصح بالتخلية عنه قبل ان يامره بذلك، وباخلاص القصد في ذلك لله تعالى، والعزم على ان لا يذكر ذلك لاحد كائنا من كان.

ومن اداب المنصوح هنا: ان يروض نفسه لتلقى نصيحة اخيه بالقبول، ويعلم انه انما فعل معه ذلك لكمال مودته، وصفاء اخائه، فيثنى عليه، ويجازيه بدعاء الخير على ما اسداه اليه. وقد روى عن سيدنا عمر رضي الله عنهانه كان يقول: "رحم الله امرا اهدى اليَّ عيوبي". ومعلوم ان الصادق يحب من يصدقه، والكاذب بخلافه، فلا يحب الناصح كما قال تعالى : ﴿وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ.

 وليحذر المنصوح من ثورة النفس عند سماعه النصيحة، فيحتقر الناصح ويقول له: "مثلك ينصحني"، او ما في معنى ذلك، فان ذلك من الجفاء، ومن اعظم اسباب الانتكاس والسقوط والعياذ بالله تعالى. قال الشيخ محيي الدين: "ومن قال لناصحه على سبيل شفوف نفسه عليه : مثلك ينصحني، او لمثلي يقال هذا فاعلم انه سقط من عين الله تعالى، وقد حجبه الله عز وجل عن عبوديته وعن الايمان، فان الله تعالى يقول : ﴿وَذَكِّرْ فَانَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤمِنِينَ.اه

وبالجملة فالذي عليه المدار في هذا الادب هو حفظ القلب من اضمار السوء للاخ. فان امكن تنبيهه على الكيفية السابقة، او التسبب في ازالة الوصف المكروه منه بشيء فذاك، وان لم يمكن ذلك فليجتهد في الدعاء له بظهر الغيب من غير تقصير. وهذا ادنى الدرجات فيما يطلب من حقوق الاخوة في هذا الباب.

وليجاهد نفسه، بعد هذا، في التخلي عن اضمار السوء لاخيه ما امكنه. وذلك لانهم نصوا على ان احد الاخوين اذا اضمر لاخيه سوءا، واحرى اذا اضمر كل منهما للاخر ذلك، والعياذ بالله تعالى، فقد ارتفعت بينهما الاخوة من اصلها. اذ الاخوة مواجهة، كما افاده من طريق الاشارة قوله تعالى ﴿وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِمْ مِنْ غِِلٍّ اخْوَانا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ. ومتى وقع اضمار السوء من احدهما، او منهما، ارتفعت المواجهة، وحصلت المدابرة. وبالمدابرة يرتفع وصف الاخوة من بينهما والعياذ بالله تعالى.

 ولهذا امر سيدنا رضي الله عنهفي وصيته الشهيرة لفقراء فاس : ان تصحب المناصحة بالرفق واللين، من غير ضغينة ولا حقد.

 قال في [الجيش الكبير] على قول سيدنا رضي الله عنهفي هذه الوصية "من غير ضغينة ولا حقد": "هو تاكيد للامر بالرفق والملاطفة اذ عنهما ينشا الحب، وعن العنف البِغْضَةُ والحِقدُ". قال: "ويحتمل ان يريد بذلك ان لا تكون السياسة مصحوبة بضغينة وحقد من الْمناصح، لان (الْمُؤْمِنَ لَيْسَ بِحَقُودٍ) كما في الحديث. ومعنى الحقد، كما في الاحياء: ان يلزم قلبه استثقاله، والبغضة له، والنِّفار عنه، وان يدوم ذلك ويبقى ويثير الحسد، والشماتة، والهجران، والاستصغار، والوقوع فيما لا يحل من الكلام، ومنع الحق، وغير ذلك، وكل ذلك حرام. واقل درجاته ان يحترز من هذا كله ولكن يستثقلهم بالباطن، ولا ينتهي باطنه عن بغضه حتى يمتنع من البشاشة له، والرفق والعناية به، والقيام بحاجته، ومجالسته، والمعاونة على المنفعة له، ويترك الدعاء له والثناء عليه. وهذا كله يَنْقُصُ من درجات الدين وان كان لا يُعَرِّضُ للعقاب" اه من [الجيش]، وراجعه ان شئت.

واختلف اذا ظهر من احد من المتواخِين ما يوجب المقاطعة هل يهجر ام لا. وكان ابو ذر رضي الله عنهيقول: "اذا انقلب الاخ عما كان عليه ابغضْته من حيث احببته". وذهب غيره الى ان الاخ لا يبغض بعد الصحبة ولكن يبغض فعله كما قال تعالى: ﴿فَانْ عَصَوْكَ فَقُلْ انِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ، ولم يقل جل وعلا : اني بريء منكم. وكان زين العابدين رضي الله عنه يقول: "لا تُبغِِض ذات اخيك وابْغَض فعله، فان تاب منه فهو اخوك". وذُكر ان شابا كان يلازم مجلس ابي الدرداء رضي الله عنه، وكان ابو الدرداء يميزه على غيره، فابتُليَ الشابُ بكبيرة من الكبائر، وانتهى الى ابي الدرداء ما كان منه. فقيل له : "لو ابعدته وهجرته" فقال : "سبحان الله لا يترك الصاحب لشيء كان منه".

 والذي عليه المحققون، ويُمكن ان يكون كالجمع بين القولين السابقين، التفصيل فيما يظهر من موجب البغض:

- فان كان الموجب فسادَ عقيدة، وسوءَ ظن، وفسخَ عهد عمدا، بانقلاب عن الحالة الاولى جهارا بابداء العداوة، والتجاهر بالمخالفة، والعياذ بالله تعالى، فان صاحب هذا الحال يجب هجره وابعاده موافقة للحق فيه، لا احتقارا له. وعليه يحمل قول ابي ذر رضي الله عنه: "ابغضته من حيث احببته". فلا خير في موالاته الا اذا تاب ورجع نادما مستغفرا، مستقيلا معترفا منكسرا.

- وان كان الموجب ارتكاب ذنب لا يرضاه ربه، والتلبس بشيء مما يُشينه عند الناس ملابسته وقربه، او عثرةً حدثت، او هفوةً وقعت، وكان بحيث ترجى توبته، وتُتوقع فَيْئَتَهُ، فهذا لا ينبغي ان يعامل بالبغض لذاته، ولكن يبغض فعله وما تلبس به من عوارض هفواته. ويلحظ مع ذلك بعين الوداد، ويُنْتَظَرُ له الفرج والعود الى مواطن الصلح من مواطن الجفاء والبعاد. وهذا هو الذي يجب على اخيه ان يعامله بجميع ما تقدم ذكره، وان يتحفظ غاية التحفظ من ان يتغير عليه باطنه وسره، واحرى ان لا يَشْتِمَهُ مشافهة، او يُعَيِّرَهُ بفعله مواجهة. وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن شتم الرجل الذي اتى بفاحشة : (مَهْ لا تَكُونُوا اعْوَانا لِلشَّيْطَانِ عَلَى اخِيكُمْ) وقال ابراهيم النخعي: "لا تقطع اخاك ولا تهجره عند الذنب لذنبه، فانه يرتكبه اليوم ويتركه غدا". وخصوصا اذا كان هذا الاخ الذي صدرت منه هذه العثرة، او دهمته هذه الفترة، ممن تقدم له ممارسة بالطريق، واشراف على مدارج الاذواق والتحقيق. فانه تجب معاملته بالاغضاء، ومزيد البرور والارضاء. وفي الخبر (اتَّقُوا زَلَّةَ العَالِمِ وَلا تَقْطَعُوهُ وَانْتَظِرُوا فَيْئَتَهُ).

ومن الادب هنا ان يكثر الاخ من الاستغفار لاخيه المبتلى بما ذكر بظهر الغيب، وان يهتم له غاية الاهتمام، ويتوجه الى الله تعالى بقدر الامكان في كشف ما نزل به، وان لا يقصر في نصحه، لكن على الحد الذي تقدم وجهه.

ومما ذكروه من الحكايات في هذا الادب: ان اخوين ابتُليَ احدهما بهوى، فاظهر عليه اخاه فقال: "اني ابتليت بهوى فان شئت ان لا تقعد على اخوتي ومحبتي لله تعالى فافعل" فقال له اخوه "ما كنت لاحل عقد اخائك لاجل خطيئتك". وعقد بينه وبين الله تعالى عقدا ان لا ياكل ولا يشرب حتى يعافى اخوه من هواه. فطوى اربعين يوما في كلها يساله عن هواه فيقول : "لا زال". فبعد الاربعين اخبره ان الهوى قد زال، فحمد الله تعالى واكل وشرب ا ه.

وروي عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهانه كان اخى رجلا في الله تعالى، فخرج ذلك الرجل الى الشام، فسال عنه سيدنا عمر رضي الله عنهبعض من قدم من الشام فقال: "ما فعل اخي؟" فقال: "ذلك اخو الشيطان". قال: "مه" قال: "انه قارف الكبائر حتى وقع في الخمر". فقال رضي الله عنهلذلك الرجل: "اذا اردت الخروج، يعني الى الشام، فاذني". فكتب اليه سيدنا عمر رضي الله عنه: "﴿حَم تَنْزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ العَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ﴾" ثم عاتبه تحت ذلك وعذله. فلما قرا الكتاب بكى وقال: "صدق الله، ونصح عمر"، فتاب ورجع.

ومن الادب في هذا الباب ايضا اذا وقع ونزل وحصلت فرقة ومباينة ان لا يذكره الا بخير. لما روي عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم انه كانت له زوجة لا ترضيه اخلاقُها، فكان اذا اسْتُخْبِرَ عن حالها يقول: "لا ينبغي للرجل ان يقول في اهله الا خيرا". ثم فارقها وطلقها. فاستخبر عن حالها فقال: "امراة بعدت مني وليست مني بشيء كيف اذكرها" انتهى

قال السهروردي رحمه الله تعالى بعد حكايته لهذا: "وهذا من التخلق باخلاق الله تعالى الذي (اظْهَرَ الْجَمِيلَ وَسَتَرَ القَبِيحَ" ا ه.

- ومنها اي الامور التي ينشا عنها التودد والتالُّف، وهي كما اسلفناه معظم الاداب : الموافقة وترك المخالفة مع الاخوان والاصحاب. ويكون ذلك بترك المِراء والجدال. ولا يُنْتَزعُ المِراء الا من نفوس زكية، قد انتزع منها الغل وغيره من الاخلاق الردية، واتصف بالاخلاق الحسنة المرضية. اذ وجود الغل في النفوس كما قيل مراء، واذا انتزع المراء من الباطن ذهب من الظاهر.

 واكثر ما ينشا عنه الغل في الباطن المزاحمة على الحظوظ العاجلة بكثرة المناصرة فيها والمنافسة، خصوصا ممن كان بينهما مشاكلة ومماثلة ومجانسة. ومن استقصى في تذويب حظوظ النفس بنيران الذكر على سبيل التزكية، بالسلوك على ايدي الكمل من اهل التربية، تنحى الغل من باطنه بحيث لا تبقى فيه بقية، وتصير نفسه اخروية بعد ان كانت دنيوية، فلا ينافس بعد ذلك في شيء من الحظوظ العاجلة من جاه او مال، لكمال تعلق قلبه بحضرة مولاه ذي الجلال. وكيف يبقى كما قيل: الغل في قلوب ائتلفت بالله، واتفقت على محبته، واجتمعت على مودته، وانِسَتْ بذكره، واستغرقت في شكره. فان تلك قلوب تصفت من هواجس النفوس، وظلمات الطبائع، بل كَحِلَت بنور التوفيق من فضل الملك الصانع. ولا محالة ان هذه القلوب هي قلوب اهل الله المجتمعين على الكلمة الواحدة مع التقيد بشروط الطريق، والانكباب على طلب الحق بكمال الصدق والتصديق.

 قال ائمة الطريق رضي الله عنهم : والناس في هذا رجلان:

. رجل طالب ما عند الله تعالى، ويدعو الى ما عند الله نفسه وغيره. فما للمحق مع هذا منافسة ولا مِراء، ولا غل، لانه معه في طريق واحدة، ووجهة واحدة. فهو اخوه ومعينه، (وَالمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ المَرْصُوصِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَا).

 . ورجل مفتتن، والعياذ بالله تعالى، بشيء من محبة الجاه والمال والرياسة ونَظَرِ الخلق. فما للمحق مع هذا ايضا منافسة، لانه زهد فيما رغب فيه، فهو في واد، وذاك في واد" اه.

ومن الادب هنا ان ينظر الى مثل هذا نظر شفقة ورحمة، فلا ينطوي له على غل، ولا يشتغل معه بمراء ولا مجادلة، لعلمه بظهور نفسه الامارة في ذلك بما تقتضيه المجانسة الظاهرة والمشاكلة. وترك المراء خير كله على كل حال. وفي الحديث (مَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَهُوَ مُبْطِلٌ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي رَبضِِ الجَنَّةِ، وَمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَهُوَ مُحِقٌّ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي وَسَطِهَا، وَمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي اعْلاهَا).

 وهذا الادب داخل في عموم الامر من سيدنا الشيخ رضي الله عنهبالتجنب لكل ما يوجب ضغينة في قلوب الاخوان، فليحافظ عليه بقدر الامكان، والله المستعان.

- ومن الامور التي يكون بها التودد والتالف ايضا، ايثار الاخ اخاه في امر دنياه، قيل : وكذا فيما يتعلق بامر اخراه. والاصل الذي استند اليه اهل الطريق في هذا الباب قول الله تعالى في حق الانصار رضي الله عنهم ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى انْفُسِهِمْ الاية.

 وقد سئل الشيخ ابو الحسن البُوشَنْجِي عن الفُتُوَة، فقال: "الفتوة عندي ما وصف الله تعالى به الانصار في قوله ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالايمَانَ﴾ الى قوله: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى انْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة. قال ابن عطاء : ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى انْفُسِهِمْ جودا وكرما (وان كان بهم خصاصة) جوعٌ وفقر.

فاما الايثار في امر الدنيا فقد وردت في الترغيب فيه اخبار كثيرة، ويكفي ما روي من ذلك في سبب نزول هذه الاية الكريمة: ﴿وَيٌؤْثِرُونَ عَلَى انْفُسِهِمْ الاية. فعن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك ان النبي صلى الله عليه وسلم قال للانصار، وقد حضرت غنيمة (انْ شِئْتُمْ قَسَمْتُمْ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ امْوَالِكُمْ وَدِيَارِكُمْ وَتُشَارِكُونَهُمْ فِي الغَنِيمَةِ، وَانْ شِئْتُمْ كَانَتْ لَكُمْ امْوَالُكُمْ وَدِيَارُكُمْ وَلَمْ يُقْسَمْ لَكُمْ مِنَ الغَنِيمَةِ)، فقالت الانصار رضي الله عنهم: "بل نَقْسِمُ لهم من ديارنا واموالنا، ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها"، فنَزلت الاية.

 وعن ابي هريرة رضي الله عنهفي ذلك ايضا حديث الرجل الذي استطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث لازواجه فلم يُلْفَ عندهن شيء، فقال عليه الصلاة والسلام : (مَنْ يُضِيِّفُ هَذَا هَذِهِ اللَّيْلَة). فقام رجل من الانصار وذهب به الى اهله وقال لزوجه:"هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكرميه ولا تدخري عنه شيئا". فقالت: "ما عندنا الا قوتُ الصبية". فامرها ان تعللهم حتى يناموا. فقدمت طعامهم للضيف، ثم قامت الى السراج كانها تريد اصلاحه فاطفاته. فجعل الضيف ياكل، وهي وزوجها يَمْضَغَانِ السنتهما، والضيف يظن انهما ياكلان. فاكل حتى شبع، وباتا طاويين. فلما اصبحوا غدوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما نظر اليهما تبسم وقال: (لَقَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ فُلانٍ وَفُلانَةٍ هَذِهِ اللَّيْلَة) ونزلت الاية".

 وعن انس رضي الله عنهفي ذلك ايضا انه اهْدِيَ الى بعض الصحابة رضي الله عنهم راس غنم مشوي، وكان مجهودا، فوجه به الى جار له، فتداوله سبعة انفس ثم عاد الى الاول، فنزلت الاية.

الى غير ذلك مما روى من الاحاديث في هذا الباب.

واما ما اتفق لكمل الاولياء من هذا المعنى فشيء كثير، واعجب ما رايناه في ذلك ما ذكروه عن النَّوْري مع جماعة من المشايخ منهم الجنيد لما سُعِِيَ بهم، فتستر الجنيد بالفقه، وقُبض على الباقين، وامِرَ بضرب اعناقهم. فتقدم النوْري، فقيل له: "الى ماذا تبادر" فقال: "اوثر اصحابي بفضل حياة ساعة" اه.

واما الايثار بامور الاخرة: فمن ذلك ما ذكر عن بعضهم انه لقي اخا له فلم يظهر البشر الكثير في وجهه، فانكر اخوه ذلك منه، فقال: "يا اخي، سمعت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (اذَا التَقَى الْمُسْلِمَانِ تَنْزِلُ عَلَيْهِمَا مِائَةُ رَحْمَةٍ، تِسْعُونَ لاكْثَرِهِمَا بِشْرا وَعَشْرٌ لاقَلِّهِمَا بِشْرا) فاردت ان تكون اكثر مني بشرا ليكون لك الاكثر" اه.

 وانظر ما ذكروه من ان المريد لا ينبغي له ان يؤثر بِفَضْلَة الشيخ ونحوها مما يخصه به، كما قال الشيخ زروق رضي الله عنه: "ومتى اعطاكم ماكولا او غيره فلا تؤثروا به الغير، ولا تشاركوا قريبا ولا بعيدا فيه. فقد يكون جمع لكم فيه سرا فيفوت من المدد بحسب الشِّرْكة فيه" اه. هل هو مستثنى مما تقدم اولا. والظاهر، والله تعالى اعلم، ان المريدين المتواخين في الله تعالى، الصادقين في طريق الارادة، موكولون في ذلك الى ما تنتجه لهم احوال محبتهم وصدقهم. فلا يعترض على من امتنع منهم من الايثار، كما لا يعترض على من جنح اليه، اذ كل منهما على صواب بحكم ما انتجه له حال صدقه ومحبته. فافهم، والله تعالى اعلم.

- ومن ذلك ايضا، وهو من اكدها، مواساة الاخ اخاه من ماله، وكذا من جاهه بالمقدور، ومواصلته بطريق المجاملة والمكارمة في الورود والصدور.

 والادب في هذا الخلق ان يكون هذا على احسن وجوه الكمال حتى لا يحصل به شيء مما يتاذى به المُوَاسَى كالمنّ وما في معناه مما جبلت عليه انفس اللئام من الناس. ومما هو في معنى المن جعلها في مقابلة غرض من الاغراض، او عوض من الاعواض، ولو الجزاء والشكر عليها من المواسى والثناء من غيره. لان الحامل على الايثار والمواساة طهارة النفس، وشرف غريزتها. وهذا الوصف في النفس لا يتكامل الا في اهل طريق الله تعالى، وهو المعبر عنه بالسخاء. وفي مقابلته الشح. كما ان الجود في مقابلته البخل، والفرق ان الجود والبخل يتطرق اليهما الاكتساب بطريق العادة، بخلاف الشح والسخاء اذ كانا من غرائز النفوس البشرية، فكل سخي جواد ولا عكس. والجود يتطرق اليه الرياء لما فيه من التطلع الى العوض بمقابلة مَّا وَلَوْ بالثناء، والسخاء لا يتطرق اليه الرياء لانه يَنْبُع من النفوس الزكية والهمم المرتفعة عن الاعواض كيفما كانت. فكل من كانت غريزته اسخى، تكون مرتبته في الصفاء اعلى. قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون فحكم سبحانه في هذه الاية بالفلاح للسخي. والفلاح اجمع اسم لسعادة الدارين.

 وهذا الادب والذي قبله مصرح به في الرسالة الاولى، وفي السادسة ايضا من رسائل الشيخ رضي الله عنه، فراجع ذلك في كتاب [جواهر المعاني]. وعلى ذلك فيجب التنبه له، والعمل به بقدر الاستطاعة. والله المستعان.

- ومنها ايضا: اي من الاخلاق المنتجة للتودد والتالف: مدارة الاخوان، واحتمال الاذى منهم.

 وقد بلغ من مدارة رسول الله صلى الله عليه وسلم ان كان لا يذم طعاما ولا ينهر خادما. وعن سيدنا انس رضي الله عنه: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما قال لي اف قط" الحديث.

 وقد قالوا : "لا شيء يستدل به على قوة عقل المرء ووفور علمه وحلمه كحسن المدارة". وقالوا: "لكل شيء جوهر، وجوهر الانسان العقل، وجوهر العقل الصبر"، ولهذا قيل: "باحتمال الاذى يظهر جوهر النفس". وبيان ذلك : ان النفس لا تزال تشمئز ممن يعكس مرادها، ويستفزها الغيظ والغضب، وبالمدارة والاحتمال قَطْعُ حَمِيَتِهَا، ورد طيشها، وكظم غيظها.

 ويكفي في الحث على هذا الادب والترغيب فيه قول الله عز وجل: ﴿سَارِعُوا الَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الاية. وفي الحديث (مَنْ كَظَم غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ انْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ القِيَّامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الخَلائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي ايِّ الحُورِ شَاءَ).

وتشتبه المدارة بالمداهنة. والفرق بينهما: ان المدارة ما اردت به صلاح اخيك فداريته رجاء اصلاحه، واحتملت منه ما تكره. والمداهنة ما قصدت به شيئا من الهوى كطلب حظ واقامة جاه. فالاولى من اخلاق الاخيار، والثانية من سمات الاشرار. وقيل في الفرق بين حقيقتيهما : ان المداراة بذل شيء من الدنيا لاصلاح الدين، والمداهنةَ بذل الدين لاصلاح الدنيا.

وهذا الادب ايضا قد اكد عليه الشيخ رضي الله عنهفي رسائله، فهو داخل في عموم الامر بتجنب كل ما يوجب ضغينة في قلوب الاخوان، والامرِ بالاكثار من العفو عن الزلل، وغير ذلك مما يطول تتبعه وجلبه. فليجتهد المريد في العمل عليه، وليجاهد نفسه ما استطاع بترك ما يُبَعِّدُ عنه وارتكاب ما يوصل اليه. والله تعالى ولي التوفيق.

- ومنها اي من الاخلاق التي تنتج التودد والتالف: ان لا يحوج الاخ اخاه الى المدارة، ولا يلجئه الى الاعتذار، ولا يكلفه ما يشق عليه. لقول مولانا على رضي الله عنه: "شر الاصدقاء من احوجك الى مداراة والجاك الى الاعتذار، وتكلفت له" اه.

 والجمع بين هذا الخلق والذي قبله من اكمل اوصاف اهل الطريق، وذلك بان يعامل اخاه بحسن المداراة ولا يحوجه هو الى ان يعامله بمثل ذلك. وهذا من اعظم اخلاق الفُتُوَّة لان فيه بذل الانصاف للاخ وترك المطالبة بالانصاف منه، وهو من اعظم اخلاقهم، واكمل ادابهم.

 قال الشيخ ابو عثمان الحِيرِي رضي الله عنه: "حق الصحبة ان توسِّع على اخيك بمالك ولا تطمع انت في ماله، وتنصفه من نفسك ولا تطلب منه الانصاف، وتكون تبعا له ولا تطمع ان يكون تبعا لك، وتستكثر ما يصل اليك منه وتستقل ما يصل اليه منك" اه.

وبالجملة فالمعاملة على الاعواض ليست من اخلاق الاخيار، وانما هي من اخلاق التجار.

ولا يخفى دخول هذا الادب فيما تقدم عن الشيخ رضي الله عنه وفي غيره مما اشتملت عليه رسائله ووصاياه. فَلْيُحْكَمْ بقدر الاستطاعة وليعمل عليه. والله ولي التوفيق والهداية.

- ومن الاخلاق المنتجة للتودد والتالف ايضا: ترك تكلف الاخ لاخيه في جميع معاملته معه. وذلك لان التكلف تصنع من اجل الناس، وما كان كذلك لا يلبث ان يضمحل وينقلب على الضد امره. ويقال: "التكلف تخلف" اي تاخر عن شاو الصديقين. وذلك لانه مباين لاحوال اهل الصدق، مع ما في بعضه من منازعة الاقدار، وعدم الرضا بقسمة الجبار.

والتكلف يكون:

- بالملبوس : كان يَلْبَسَ من اجل الناس من غير نية صالحة في ذلك،

- وبالكلام : وذلك بان يخرج في الملاطفة الى حد التملق. وقد يتملق الانسان الى حد يخرجه الى حد النفاق والعياذ بالله تعالى. وفي الحديث (الحَيَاءُ وَالعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنَ الايمَانِ، وَالبَذَاءُ وَالبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النِّفَاقِ) قال العلماء: والمراد بالبيان هنا كثرة الكلام والتكلف للناس بزيادة تملق لهم، وثناء عليهم، وزيادة التفصح. وذلك ليس من شان اهل الصدق.

- ويكون التكلف ايضا بالطعام الذي يقدم للضيف ونحوه. والفتوة ترك التكلف واحضار ما حضر، وبذلك يستوي مُقَام الضيف وذهابه، وبالتكلف تؤثر مفارقته. وفي الحديث (مِنْ مَكَارِمِ الاخْلاقِ التَّزَاوُرُ فِي اللهِِ، وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ انْ يُقَرِّبَ الَى اخِيهِ مَا تَيَسَّرَ عِنْدَهُ، وَانْ لَمْ يَجِدْ الا جُرْعَةَ مَاءٍ. وَانْ احْتَشَمَ انْ يُقَرِّبَ الَى اخِيهِ مَا تَيَسَّرَ لَهُ لَمْ يَزَلْ فِي مَقْتِ اللهِ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ) اه.

وحُكي انه لما ورد ابو حفص النَّيْسابوري العراق تكلف له الجنيد انواعا من الاطعمة، فانكر ذلك ابو حفص، وقال: "صَيَّرَ اصحابَنا مثل المخانيث يُقدَّم لهم الالوان" اه. قال ابو حفص ما قاله لكراهيته التكلف الذي هو ليس من شان الاخوان الصادقين مع اخوانهم، وانما هو من شان المترفهين. والا فمن قدم لاخوانه الالوان بنية صالحة لا يكون مذموما، بل ذلك معدود عندهم مما يستجلب به رضا الله تعالى. كما حكى عن بعض رجال الطبقات الشعراوية انه كان يبالغ في اكرام الفقراء حتى انه كان يصنع لهم شبابيك من الحلواء ويقدمها لهم ليكسروها وياكلوها. وعلى هذا يجري قول بعضهم: "اذا قُصِدْتَ بالزيارة فقدم ما حضر، واذا استزرت فلا تُبق ولا تذر" اه.

وكذلك اللباس المنتخب اذا كان بقصد صحيح، ونية صالحة، كالتجمل للوفود وللاعياد والجمعة ونحو ذلك مما هو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون من تكلف اللباس المذموم.

وكذلك ما يستعمله الصادقون من الفقراء في مدح اساتذهم من القصائد الشعرية ونحوها مما يَحْمِلُ عليه صدق المحبة، وصفاء المودة، لا يعد من تكلف الكلام المذموم.

وبالجملة فالمدار على النية، فما عمله الانسان بنية صالحة، قاصدا به ما عند الله، لا يعد تكلفا. وما عمله بنية فاسدة، متبعا فيه اغراضه وهواه، عد تكلفا، وصار وباله عليه. والعياذ بالله. وقد ورد في الخبر (مَنْ تَطَيَّبَ للهِ جَاءَ يَوْمَ القِيَّامَةِ وَرِيحُهُ اطْيَبُ مِنَ المِسْكِ الاذْفَرِ، وَمَنْ تَطَيَّبَ لِغَيْرِ اللهِ جَاءَ يَوْمَ القِيَّامَةِ وَرِيحُهُ انْتَنُ مِنَ الجِيفَةِ) اه. وانظر [عوارف المعارف] للسهروردي رحمه الله تعالى، والعهود الكبرى والطبقات للشعراني رضي الله عنه.

وهذا الادب اشار اليه سيدنا الشيخ رضي الله عنهبقوله في بعض رسائله ما نصه: "استدراك، ما ذكرناه من مراعاة حقوق الاخوان فليكن ذلك في غير حرج ولا ثِقَل ولا كُلفة بما تيسر وامكن"، ثم قال سيدنا الشيخ رضي الله عنه: "الا ان يكون في بعض العوارض هنا يخاف من اخيه العداوة والقطيعة او فساد القلب فليسرع لاصلاح قلبه فان ذلك يوجب الرضا من الله تعالى" اه.

فافاد كلامه رضي الله عنههنا انه لا باس باتيان الاخ ما فيه كلفة في بعض الاحيان اذا كان في ذلك تطييب لخاطر اخيه بحسب ما يعرض في ذلك الوقت، وان ذلك لا يعد من التكلف المذموم عند اهل الطريق، بل هو عندهم من الامور التي يستجلب بها رضا الله تعالى. وذلك لانه من جملة المدارة المحمودة التي هي بذل شيء من الدنيا لاصلاح الدين". فافهم، والله تعالى اعلم.

- ومن الاخلاق التي يدوم بها التودد والتالف ايضا: محافظة الاخ على مساعدة اخيه، وترك مخالفته في كل شيء دق او جل، الا فيما يخالف الشريعة المطهرة. وقد قيل: "ان من ادابهم في هذا الباب ان لا يقول الاخ لاخيه عند الدعوة : الى اين، او لِمَ، او باي سبب" قال بعضهم: "اذا قلت لصاحبك: قم، فقال: الى اين فلا تصحبه بعدها". وقال اخر: "من قال لاخيه: اعطني من مالك، فقال: كم تريد فما قام بحق الاخاء" ه.

 

لا يسالون اخاهم حين يَنْدُبُهم

 

 

في النائبات على ما قال برهانا

 

- ومن تلك الاخلاق ايضا: محافظة الاخ على سَتْرِ عورة اخيه بما امكن. ويروى ان سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام قال لاصحابه: "كيف تصنعون اذا رايتم اخاكم نائما فكشفت الريح عنه ثوبه" قالوا: "نستره ونغطيه"، فقال: "بل تكشفون عورته"، قالوا: "سبحان الله من يفعل هذا" قال: "احدكم يسمع في اخيه الكلمة فيزيد عليها ويشيعها باعظم منها".

- ومن تلك الاخلاق التي يدوم بها التودد والتالف ايضا: تقديم من يعرف الاخوان فضلَه من اخوانهم، والتوسعةُ له في المجلس، وايثاره بالموضع. ومستندهم في هذا ما روى "انه صلى الله عليه وسلم كان جالسا في صُفَّةٍ ضيقة، فجاءه قوم من البدريين فلم يجدوا موضعا يجلسون فيه، فاقام صلى الله عليه وسلم من لم يكن من اهل بدر، فجلسوا مكانهم، فاشتد ذلك عليهم، فنزلت الاية ﴿اذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجْلِسِ الاية". ومعلوم قيام الصديق الاكبر رضي الله لمولانا على كرم الله وجهه وايثاره بالمجلس بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله له عليه الصلاة والسلام (انَّمَا يَعْرِفُ الفَضْلَ لاهْلِ الفَضْلِ ذَوُوهُ).

و(حكى) ان بعض من لقى الجنيد رضي الله عنهورد على ابي عبد الله بن خَفِيفٍ زائرا فتماشيا، فقال له ابو عبد الله: "تقدم"، فقال: "باي عذر". فقال له: "لانك لقيت الجنيد وما لقيته". اه

تنبيه

قد ثبت عن سيدنا الشيخ رضي الله عنهانه امر ان لا يقصد احد من الاصحاب بجلوسه في نحو الوظيفة اعلى المجلس ولا ادناه بل يجلس حيث وجد، اي حيث انتهى به المجلس كما هي السنة في ذلك.

وقد دخل على بعض الفقراء اشتباه في الامر من اجل اخذهم به من غير تثبت في مراد الشيخ رضي الله عنهبهذا الكلام. فراوا ان عدم التفسح في المجلس مامور به. فاداهم ذلك الى الاخلال بهذا الخُلُق، والاعراض عن العمل به بالمرة. فصاروا لا يُوَسِّعُونَ لذي السن والفضل منهم في مجالسهم، ولا يؤثرونهم بصدر المجلس اكراما لهم لسنهم وسابقيتهم في الفضل، معتقدين ان فعلهم ذلك هو الذي امر به الشيخ رضي الله عنه.

ولم يتاملوا كلامه رضي الله عنهحتى يعرفوا انه انما نهى عن القصد الى الجلوس فوقُ او تحتُ، اي اعلى المجلس الذي هو صدره، ولا ادونه الذي هو مؤخره. وذلك لان في القصد الى الجلوس باحد المحلين اتباعُ هوى النفس:اما في القصد الى الاعلى فظاهر فيه حب العلو، واما في القصد الى الادون فلان فيه دسيسةً من دسائس النفس حيث تدعو الى ما صُورَتُه صورةُ التواضع وهي تريد ان تفوق غيرها بذلك، ويشار اليها به، وهو على هذه الحال عين حب العلو ايضا، فهو كالذي قبله.

 فامر الشيخ رضي الله عنهبمخالفتها ومجاهدتها في ذلك بنهيه رضي الله عنهعن القصد لاحد الامرين تنفيرا عن الوقوع في مكايد النفس الجلية منها والخفية. ولا محالة ان هذا هو الشان في مثل هذا المقام عند جميع اهل التربية.

 ويؤيد هذا الذي ذكرناه ان الشيخ رضي الله عنهتلا بعد ذكره له قوله تعالى ﴿تِلْكَ الدَّارُ الاخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوا فِي الارْضِ الاية، قيل له: "اهذا علو" قال: "نعم". وارادة العلو في القصدين معا ظاهرة.

واذا عُلِم مرادُ الشيخ رضي الله عنهعنه فيما امر به، علم انه لم ينه عن التفسح في المجلس ونحوه مما اقتضته السنة من الايثار لاهل الفضل واستعمال الادب معهم الذي هو من اخلاق الابرار، وسيما الاخيار. فليتنبه لهذا بقدر الامكان، وليُنَبَّه عليه من اغفله من الاخوان، والله المستعان، وعليه التكلان.

هذا، ولا يخفى على الناظر الاريب بعد ما قدمناه، دخول هذه الاداب وغيرها فيما اشتمل عليه كلام الشيخ رضي الله عنهفي رسائله ووصاياه، واندراجها فيما اشارت اليه سيرته السنية من فضائله ومزاياه.

وانما اومانا بطَرْفٍ خفيٍّ الى فتح هذا الباب، تنبيها لمن عسى ان يظن ان طريق سيدنا رضي الله عنه خالية عن مثل هذه الاداب، وتعريفا له بانها اشتملت من اصول علوم الطريق وفروعها على ما هو لب اللباب، والله تعالى اعلم.

تكميل

 قد تقدم ان اختيار الصحبة والاخوة عمل، وان كل عمل يحتاج الى حسن الابتداء وهو النية على الوجه الذي تقدم بيانه. وقد قالوا : "ان العمل كما يحتاج الى حسن الابتداء، كذلك يحتاج الى حسن الاختتام". فحصول النتيجة في الصحبة والاخوة مشروط بحسن الاختتام.

 وقد قال صلى الله عليه وسلم في خبر السبعة الذين يظلهم الله تعالى بظله - على ما في بعض الروايات – (وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ فَعَاشَا عَلَى ذَلِكَ وَمَاتَا عَلَيْهِ). قال في [عوارف المعارف]: "فيه اشارة الى ان الاخوة والصحبة من شرطهما حسن الخاتمة حتى يكتب لهما ثواب المواخاة". قال: "ومتى فسدت المواخاة بتضييع الحقوق فيها - يعني في اخر الامر- فسد العمل من الاول. ومن هنا كان الشيطان لعنه الله اشد حرصا على افساد ما بين المتواخيين في الله تعالى. وقد قالوا : ما حسد الشيطان متعاونين على بر حسده على متواخيين في اللهِ، متحابين فيه، فانه يجهد نفسه، ويحث قبيله على افساد ما بينهما". اه اي يوقع بينهما المخالفة في امر ما، فيستوحش بعضهما من البعض.

قال امام الطريقة الجنيد رضي الله عنه: "ما تواخى اثنان في الله تعالى واستوحش احدهما من صاحبه الا لعلة في احدهما. فالمواخاة في الله اصفى من الزلال. وما كان لله فالله مطالب بالصفاء فيه، وكل ما صفا دام، والاصل في دوام صفائه عدم المخالفة". اه

دقيقة

 قالوا: "ان اقل ما يزينه الشيطان للاخ في معاملة اخيه التساهل في القيام بحقه اتكالا على ما بينهما من المودة". وهذا من مكْرهِ الخفيِّ، والعياذ بالله، ولذلك نبه عليه مشايخ الطريق رضي الله عنهم.

قال عبد الله بن الجَلاء : "لا تضيع حق اخيك بما بينك وبينه من المودة والصداقة، فان الله تعالى فرض لكل مؤمن حقوقا لا يضيعها الا من لم يراع حقوق الله تعالى" اه.

تذييل

 في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (الْمُتَحَابُّونَ فِي اللهِ عَلَى عَمُودِ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ فِي رَاسِ العَمُودِ سَبْعُونَ الْفَ غُرْفَة، مُشْرِفُونَ عَلَى اهْلِ الجَنَّةِ، يُضِيءُ حُسْنُهُمْ لاهْلِ الجَنَّةِ كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ لاهْلِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ اهْلُ الجَنَّةِ: انْطَلِقُوا بِنَا نَنْظُرُ الَى الْمُتَحَابِّينَ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَاذَا اشْرَفُوا عَلَيْهِمْ اضَاءَ لَهُمْ حُسْنُهُمْ كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ لاهْلِ الدُّنْيَا، عَلَيْهِمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٍ، مَكْتُوبٌ عَلَى جِبَاهِهِمْ: هَؤُلاءِ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللهِ).

وعن سيدنا معاذ رضي الله عنهانه قال لمن قال له، "اني احبك في الله" : "ابشر ثم ابشر، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (تُنْصَبُ لِطَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ كَرَاسِي حَوْلَ العَرْشِ يَوْمَ القِيَّامَةِ، وُجُوهُهُمْ كَالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، يَفْزَعُ النَّاسُ وَلا يُفْزَعُونَ، وَيَخَافُ النَّاسُ وَلا يَخَافُونَ، وَهُمْ اوْلِيَاءُ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)، فقيل: "من هؤلاء يا رسول الله" قال : (الْمُتَحَابُّونَ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ).

وروى عبادة بن الصامت رضي الله عنهعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِينَ فِي، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِي، والْمُتَبَاذِلِينَ فِيّ، وَالْمُتَصَادِقِينَ فِيّ) اه.

وفي هذا القدر مما قصدنا ايراده في هذا المطلب كفاية، والله ولي التوفيق والهداية.

 

بغية المستفيد لشرح منية المريد

Centro de Estudio y Difusión de la Vía Tiŷāniyya